• بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
    Website counter 

    بروكسيل الأدبية

     

    تاريخ الكتابة العربية ملحق 4

     

    زكرياء قاسم وعلي
    إبداعات الكاتب

     

     

     

     

     

     

     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     

    رَابـِعـا: الْـعَـصْـر الْـعَـبَّـاسـي الأَوَّل (132- 232 هـ / 750- 846 م)


    تاريخ الكتابة العربية ملحق 4


    اجـتـمـعـتْ ظُـروف كَـثـيـرة و مُـتـنـوعـة فـي هـذا الـعـصـر سـاهـمـتْ كـلـهـا فـي أنْ تـأخُـذ الـكـتـابـة شـكـلـهـا الـنِّـهـائـي الَّـذي نـسـتـعـمـلـه حـتـى الآن. هـذه الـظُّـروف نـذكُـر مـنـهـا:

    1= الإمـبـراطـوريـة الـعـبـاسـيـة تُـسـيـطـر عـلـى كـل الـشـرق الأدنـى الـقـديـم: مـن الـمـغـرب غـربـا إلـى حُـدود الـهِـنْـد شَـرقـا.

    2= هـذه الـرقـعـة الـجـغـرافـيـة هـي الَّـتـي عـرَفـتْ أعـرق الـحَـضـارات الإنـسـانـيـة.

    3= الـتُّـجـار الـمُـسـلـمـيـن يُـسـيـطـرون تـقـريـبـا عـلـى كـل الـطُّـرق الـتَّـجـاريـة.

    4= نـقَـل هـؤلاء الـتُّـجار تِـقْـنـية صِـنـاعة الـورق مـن الـصِّـين و نـشـروها فـي الـعـالَم الإسـلامـي. و الـورق يُـسـاعـد عـلـى تـطـوُّر و انـتـشـار الـكِـتـابـة و الـمَـكـتـوب.

    5= وجـود إرادة سـيـاسـيـة قـويـة لـنـشـر الـعـلـم والإسـتـفـادة مـن الـحـضـارات الـسَّـابـقـة ابـتـداء مـن عـهـد الـخَـلـيـفـة "الـمـأمـون" الـعـبَّـاسـي.

     6= بـفـضـل هـذه الـرِّعـايـة الـسـيـاسـيـة، تـرجـم الـعـرب و الـمُـسـلـمـون، و فـي أقـلَّ مـن مِـئـة سـنـة، كـلَّ الـعُـلُـوم الَّـتـي كـانـت مَـعـروفـة فـي ذلـك الـوقـت عـنـد كـل الأمـم.

    7= ابـتـداء مـن هـذا الـعـصـر، بـدَأ الـعـرب والـمُـسـلـمـون يُـدَوِّنُـونَ كـلَّ شـيء عـن تـاريـخـهـم. و هـذا الـعـصـر يُـعْـتَـبَـرُ بـحـق بـِداية "عَـصْـر الـتَّـدْويـن" أيْ بـداية الـتـحـوُّل مـن الـثَّـقـافـة الـشَّـفَـوِيَّـةِ إلـى الـثَّـقـافـة الـكِـتَـابـِيَّـة.                                                          

    8= اِنـتـشـار عـدد كَـبـيـر جـدا مـن الـمَـكـتـبـات و الـورّاقـيـن فـي كـل أنـحـاء الإمـبـراطـوريـة.

    لـكـن هـذه الـجُـهـود و هـذه الـظُّـروف تَـبـقـى بـدون أيـة قِـيـمـة مـادامـتْ الـلُّـغـة الَّـتـي سـنُـتـرجـم إلـيْهـا لا يـفـهَـمـهـا أكـبـر عـدد مُـمـكـن مـن الـنـاس، و كِـتـابـتـهـا لا تـزال تـطـرَح مـشـاكِـل كَـثـيـرة لـمُـسـتـعـمـلـيـهـا. إنَّ كـل هـذه الـظُّـروف الـمُـسـاعِـدة لا تُـسـاوي شـيء بـدون لـغـة مَـكـتـوبـة بـشـكـل مُـوحَّـد و مَـفـهـومـة مـن الـجَـمـيـع. هـذا هـو الـسَّـبـب الَّـذي جـعـل الـعُـلـمـاء يـهـتـمُّـون، أوَّلا و قـبـل كُـل شـيء، بـالـلُّـغـة لأنَّـهـا عِـمـاد كـل ثَـقـافـة.    

    هـذا الـتـحـوُّل فـي الـثَّـقـافـة الـعـربـيـة مـن الـشَّـفَـوي إلـى الـكِـتـابـي كـان مُـسـتـحـيـلا بـدون تَـثـبـيـث قَـضـيـة "الإعـجام" و إعـطاء حـل نِـهائـي لـمُـشـكـلة "الـشَّـكـل". و مـن سـيَـقُـوم بـذلـك هـو الـعـالِـم الـلـغـوي و الـنـحـوي الـكَـبـيـر الـخَـلـيـل بـن أَحْـمَـد الـفَـرَاهِـدِي. و هـو مـا سـنـدرُسـه فـي الـفـقـرة الـتـالـيـة.                                                                

    ت = الـشَّـكْـلُ : الْـخَـلِـيـلُ (تـوفـي 175 هـ/ 792م) و الْـحَـلُّ الـنِّـهَـائِـي.

    إنّ كـثـرة اِسـتـعـمـال الإعـجـام فـي الـكِـتـابـة أظـهـر بـوُضـوح شَـديـد مَـحـدوديـة الـحُـلـول الَّـتـي طـرَحـهـا "أبـو الأسـود". فـطـريـقـتـه فـي الـشـكـل عـن طَـريـق وضـع نـقـطـة أو نُـقـطـتـيـن فـوق أو تـحـت أو عـلـى يـسـار الـحـرف أصـبـحـتْ عـائـقـا بـدلا مـن أنْ تَـكـون حـلا. و بـشـكـل مُـبـسَّـط فـلـنـتـصـوَّرْ مـا يـلـي:                                                 

    = حـرف الـثـاء أصـبـح يُـكـتَـبُ، بـعـد الإعـجـام، بـثـلاث نـقـط فـوقـه. فـإذا جـاء بـضـمَّـتـيـن فـي  آخِـر الـكـلـمـة فـهـمـا نُـقْـطَـتـان أُخْـريـتان عـلـى طَـريـقة أبـي الأسـود: فـي هـذه الـحـالـة هـذا الـحـرف سـتـكـون فـوْقـه خـمـسُ نُـقـط. نـفـس الـشـيء بـالـنِـسـبـة لـحرف الـشِّـيـن. فـكـم مـن الـمِـسـاحـة يـجـب أنْ نـتـرُك بـيـن الأسـطـر؟ فـي زمـن الـورق فـيـه ثـمـنـه مُـرتـفِـع جـدا.

    = حـرف الـتـاء أصـبـح يُـكْـتَـبُ، بـعـد الإعـجـام، بـنُـقـطـتـيـن فـوقـه. فـإذا جـاء بـالـفـتـحـة أضَـفـنـا لـه نُـقـطـة أخـرى عـلـى طَـريـقـة أبـي الأسـود. و فـي هـذه الـحـالـة لا يُـمـكـن أنْ نُـمـيِّـزه عـن الـثـاء.                                                                               

    = حـرف الـبـاء أصـبـح يُـكْـتَـبُ، بـعـد الإعـجـام، بـنُـقـطـة واحِـدة تـحـته. فـإذا جـاء بـكَـسـرة أضـفـنـا لـه نُـقـطـة أُخْـرى عـلـى طَـريـقـة أبـي الأسـود. و فـي هـذه الـحـالـة لا يُـمـكـن أنْ نُـمـيِّـزه عـن الـيـاء.                                                                               

    = حـرف الـنـون أصـبـح يُـكْـتَـبُ، بـعـد الإعـجـام، بـنُـقـطـة واحِـدة فـوقـه. فـإذا جـاء بـالـفـتـحـة أضَـفـنـا لـه نُـقـطـة أخـرى عـلـى طَـريـقـة أبـي الأسـود. و فـي هـذه الـحـالـة لا يُـمـكـن أنْ نُـمـيِّـزه عـن الـتـاء. وإذا جـاء بـفـتـحـتـيـن لا يُـكـمـن أنْ نُـمـيِّـزه عـن الـثـاء...         

    و لـكـي لا نُـطـيـل فـواضِـح جـدا مـن هـذه الأمـثـلـة أنَّ الـجـمـع بـيْـن الإعـجـام و الـشـكـل عـلـى طَـريـقـة أبـي الأسـود يـطـرَح مَـشـاكـل جَـديـدة أكـثـر مـمـا يـطـرَح مـن حُـلـول. و أنَّ الـلُّـجـوء إلـى الألـوان للـتَّـمـيـيـز بـيـن نُـقـط الإعـجـام و نُـقـط الـشـكـل سـيـجـعَـل ثَـمـن الـكُـتُـب مُـرتـفِـعـا جـدا و لـن يـسـتـطـيـع الـنـاس أن يـشـتـروهـا. لـقـد أدَّى انـتـشـار الإعـجـام إلـى الإسـراع بـانـحـصـار اِسـتـعـمـال طَـريـقـة أبـي الأسـود فـي الـشـكـل و إلـى مـوتـهـا و إنْ بـقِـيـتْ مُـسـتـعـمَـلـة فـي الـمَـصـاحِـف إلـى الـقـرن الـخـامِـس الـهـجـري الـحـادي عـشـر الـمِـيـلادي.                                                                                     

    آخِـر مُـحـاولـة لإخـتـراع طَـريـقـة فـي "شـكْـل" الـكِـتـابـة الـعـربـيـة هـي طَـريـقـة الـخَـلـيـل. فـهـو الَّـذي اخـتـرع رسـم الـضـمـة و الـفـتـحـة و الـكـسـرة و الـوصـلـة و الـشـدة و الـسـكـون و الـمـد و كـذلـك الـهـمـزة. أيْ كـل الـحـركـات الَّـتـي لاَ زِلْـنَـا نـسـتـعـمـلـهـا إلـى الـيـوم. و لـم يـتـوقـف الـخَـلـيـل عـنـد هـذا الإخـتـراع الـعـمـلـي بـل كـتَـب كِـتابـا فـي الـمَـوضـوع و سـمَّـاه " كِـتَـابٌ فـي الـنَّـقْـطِ و ذِكْـر عِـلَـلِـهِ" شـرح فـيـه كـل شـيء عـن مَـشـروعـه. و لـكـن للأسَـف الـكِـتـاب ضاع و لـم يـصِـلـنـا.                                                                    

    1= الـضَّـمَّـةُ: هـي واو صَـغـيـرة  تُـكْـتَـبُ فـوق الـحـرف.

    2= الـفَـتْـحَـةُ: هـي ألـف صَـغـيـرة تُـكْـتَـبُ أُفُـقِـيًّـا فـوق الـحـرف.

    3= الـكَـسْـرَةُ: هـي يـاء صَـغـيـرة تُـكْـتَـبُ تـحـت الـحـرف.

    4= الـسُّـكُـونُ: قـبْـل الـخَـلـيـل، كـان يُـكْـتَـبُ جِـيـمُ صَـغـيـر فـوق الـحـرف هـكـذا (  ). أيْ أول حـرف مـن كـلـمـة "جَـزْم " الَّـتـي تَـعـنـي الـسـكـون. لـكـن الـخَـلـيـل فـضَّـل أنْ يـأخُـذ آخِـر حـرف مـن نـفـس الـكـلـمـة، و هـو الـمـيـم، و يُـزيـل مـنـهـا الـعَـرَّاقـة، أيْ الـجـزء الـمَـكـتـوب تـحـت الـسـطـر. وهـكـذا حـصَـل عـلـى صِـفْـر صـغـيـر وضَـعـه فـوق الـحـرف.     

    5= الـشَّـدَّةُ: لـقـد أخَـذ الـخَـلـيـل أول حـرف فـي كـلـمـة " شـدة" و صـغَّـره و أزال نـقـطـه الـثـلاث و عَـرّاقـتـه ثـمّ و ضـعـه كـعـلامـة فـوق الـحـرف.

    6= الـوَصْـلَـة: و تُـسَـمَّـى أيـضـا " الـصِّـلَـة". فـلـقـد أخـذ الـخَـلـيـل أول حـرف فـيـهـا( ص ) و صـغَّـره ثـم و ضـعـه فـوق الـحـرف.

    7= الـمَـدُّ: أخَـذ الـخَـلـيـل كـلـمـة " مــد" و أزال مـنـهـا حـرف الـمـيـم و الـجـزء الأسـفـل مـن حـرف الـدَّال و احـتـفـظ بـالـبـاقـي كـعـلامـة.

    8= الـهَـمْـزَة: لـقـد أخَـذ الـخَـلـيـل حـرف الـعـيـن ( ع) و أزال مـنـه الـعَـرَّاقَـة، أي الـجـزء الـمَـكـتـوب تـحـت الـسـطـر، واحـتـفـظ فـقـطْ بـالـبـاقـي ( ء ) و اسـتـعـمـلـه كـعـلامـة. و لـقـد اخـتـار حـرف الـعـيـن لـتـقـارُب نُـطْـقـه مـع نُـطْـق الـهـمـزة.                                   

    يـلـخِّـص أبـو عَـمْـرو الـدَّانِـي جـزء مـن عـمَـل الـخَـلـيـل فـي هـذه الـفـقـرة مـن كِـتـابـه "الـمُـحْـكَـمْ فـي نَـقْـط الـقـرآن" ص 7 بـقـوْلـه: "الـشَّـكْـلُ الَّـذِي فِـي الْـكُـتُـبِ (هُـوَ) مِـنْ عَـمَـلِ الْـخَـلـيـل، و هـو مَـأْخُـوذٌ مـن صُـوَرِ الْـحُـرُوفِ. فـالـضَّـمَّـةُ وَاوٌ صَـغِـيـرةٌ فـي أَعْـلَـى الْـحَـرْفِ لِـئَـلاَّ تَـلْـتَـبـِسَ بـالـوَاوِ الـمَـكْـتُـوبَـةِ. و الـكَـسْـرَةُ يـاءٌ تَـحْـتَ الْـحَـرْفِ، و الْـفَـتْـحَـةُ أَلِـفٌ مَـبْـطُـوحَـةٌ فَـوْقَ الْـحـرْفِ"                                                                      

    و إذا كـانت الـكِـتـابـة الـعـربـيـة قـد أصـبـحـتْ واضِـحـة، بـفـضْـل الـشـكـل و الإعـجـام، فـهـذا لا يَـعـنـي أنَّ اسـتـعـمـال الـنـاس لـهـمـا كـان فـي مُـدة قَـصـيـر، بـل تـطـلَّـب ذلك عـشـرات الـسـنـيـن. و يَـبـقـى الـسـؤال هـو كـيْـف يُـمـكـن أنْ يـفـهَـم و يـكـتُـب الـنـاس لُـغـة بـدون نـحـو؟ تـاريـخ الـنـحـو هـو مَـوضـوع الـفـصـل الـثـانـي مـن هـذا الـبـحْـث.               

     

    زكرياء قاسم وعلي 17-06-2012 – بروكسيل / بلجيكا              

     

    أعلى الصفحة

     
    sounnif@gmail.com
    Previous Tab                     للمشاركة إضغط هنا                      Next Tab
     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     لانا راتب المجالي

    بروكسيل الأدبية ترحب بكل إبداعاتكم

    bruxellesaladabiya@gmail.com

    Partager via Gmail

    تعليقك
  • بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
    Website counter 

     

    من تاريخ الكتابة العربية

     

     

    زكرياء قاسم وعلي
    إبداعات الكاتب

     

     

     

     

     

     

     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     

    هـذه مـجـمـوعـة مـن الـمـقـالات ألـقـيـتْ عـلـى طـلـبـة الـسـنـة الأولـى مـاجسـتيـر شـعـبـة الـلـغـة الـعـربـيـة و الـتـرجـمـة فـي درس الـلـسـانـيـات الـتـزمُّـنـيـة / الـديـاكـرونـيـة خـلال الـسـنـوات الـثـلاثـة الـمـاضـيـة. أتـطـرَّق فـيـهـا لـمـجـمـوعـة مـن الـمـواضـيـع تـهـمّ تـاريـخ لـغـة الـضـاد:  كـالـكـتـابـة و الـنـحـو و جـمْـع الـلـغـة.  وقـد ارتـأيْـتُ نـشْـر أجـزاء مـن هـذه الأبـحـاث عـلـى صـفـحـات مَـجـلـتـنـا تَـعـمـيـمـا للـفـائـدة و إثـراء للـنِّـقـاش. و سـتـكـون الـبـِدايـة مـع تـاريـخ الـكِـتـابـة.

    و اللـه ولـي الـتَّـوفـيـق.                                                                                                              

     

    مـن تـاريـخ الـكِـتـابـة الـعـربـيـة.(3)

    ثـالِـثـا: الـكِـتابـة فـي الـعَـصْـر الأُمَـوِي (40-132 هـ /661-750م)

     

    يُـمـكـن الـقـول إنَّ الـعـصـر الأُمَـوِيَّ هـو عـصـر كَـثـرة  الـمُـسـلـمـيـن غـيـر الـعـرب، عـصـر تَـنـظـيـم الـدوْلـة، عـصـر كـانـت فـيـه الـدولـة عَـربـيـة أكـثـر مـنـهـا إسـلامـيـة، عـصـر بـدايـة تَـدويـن الـحَـديـث الـنَّـبـوي بـشـكـل جَـمـاعـي و مُـنـظّـم عـلـى يـد مُـحـمَّـد بـن شِـهـاب الـزَّهْـري سـنـة 80 هـ /700 م. و الأهـم مـن ذلـك أصـبـحـتِ إدارات الـدولـة كـلُّـهـا تـسـتـعـمـل الـعـربـيـة فـقـط.                                                                        

     لـيـس غَـريـبـا عـلـى عـصـر عـرف كُـلَّ هـذه الأشـيـاء و غـيْـرهـا أنْ يـخـطُـوَ خَـطـوات كَـبـيـرةً فـي تَـطَـوُّر الـكِـتـابـة الـعـربـيـة. و فـيـمـا يـخُـصّ مَـوضـوع بـحْـثـنا عـرَف هـذا الـعـصـر ظُـهـور "الـنَّـقْـط / الـشَّـكْـل" مـع "أَبـِي الأَسْـوَد الـدُّؤَلـي" و ظُـهـور الإعـجـام مـع تَـلاَمِـيـذه.           

     

    ظُـهـور " الـنَّـقْـط" فـي الـكِـتـابـة.

     كـانـت الـلُّـغـة الـعـربـية، حـتى الـعـصـر الأمـوي، تُـكْـتَـبُ بـدون الـحَـرَكـات ( الـمُـصَـوِّتـات) الـقَـصـيـرة بـل فـقـط بـالـحُـروف. و حـتـى هـذه الـحُـروف لـم تـكـن مَـنـقـوطـة. و مـع ذلـك  لـم يـكـن هـذا الأمـر يـطـرَح أدنـى مُـشـكِـلة للـعـرب الَّـذيـن تـربَّـوْا فـي بـِيـئة عـربـية خـالِـصـة. و لـكـن أبـنـاءهـم الَّـذيـن وُلِـدُوا فـي الـمُـدن و عـاشُـوا مـع غـيْـر الـعـرب، و كذا الـمُـسـلـمـين مـن غـيْـر الـعـرب، كـانـوا يـجـدون صُـعـوبات كَـثـيـرةً فـي الـقـراءة و الـكِـتابة و خُـصـوصـا قِـراءة وفـهـم الـنُّـصـوص الـديـنـيـة الـمُـؤسِّـسـة مـن قُـرآن و سـنـة.و هـذا مـا دفَـع لـظُـهـور  الـنَّـقـط.                                                                                           

                                                                              

    أ = أَبُـو الأَسْـوَد الـدُّؤَلِـي ( تُـوفِـيَ 69 هـ/ 689 م) و ظُـهـور "الـنَّـقْـط".

     " أَبُـو الأسْـوَد الـدُّؤَلـي" عـالِـم و قـاض كـان يَـعـيـش فـي جَـنـوب الـعِـراق حـيْـث عـدد كَـبـيـر مـن الـمُـسـلـمـيـن غـيْـر الـعـرب. وكـان يـعـرِف الـمَـشـاكـل الـلـغـويـة الَّـتـي كـانـت تُـواجِـه هـؤلاء الـراغِـبـيـن فـي مَـعـرِفـة أُمـور دِيـنـهـم. مِـمّـا جـعـلـه مُـسـتـعِـدًّا لـكـي يـفـعَـل شـيء يـسـهِّـل بـه عـلـى الـنـاس.                                                                       

                                                                           

    لاحـظ أبـو الأسـود أنَّ أبـنـاء الـعـرب الَّـذيـن وُلِـدُوا خـارِج الـجَـزيـرة الـعـربـيـة و اخـتـلـطـوا بـغـيْـر الـعـرب، بـدؤُوا يـفـقِـدون الـلُّـغـة الـعـربـيـة، و أصـبـحـوا غـيْـرَ قـادِريـن عـلـى الـتَّـعـبـيـر الـسَّـلـيـم، وذلـك يـؤدِّي إلـى إخـتـلاط الـمـعـانـي. إنَّ الـهـويـة الـعـربـيـة أصـبـحـت فـي خـطـر حـتـى مـن أبـنـائـهـا. و إذا ضـاعـتْ الـلُّـغـة الَّـتـي هـي أسـاس الـهـويـة الـعـربـيـة فـإن الـدِّيـن بـدوره سـيَـضـيـع. هـذا هـو نـاقـوس الـخـطـر كـمـا فـهِـمـه " أبـو الأسـود الـدُّؤَلـي".                                                                                

    كـمـا لاحَـظ أيـضـا أنّ هـناك مُـسـلـمـيـن غـيـر عـرب يـبـدُلـون جـهدا فـي تـعـلُّـم الـلُّـغة الـعـربـية ولـكـنهم لا زالـوا عـاجِـزيـن عـن قِـراءة و فـهْـم الـقُـرآن بـشـكْـل سَـلـيـم.              

    بـمُـسـاعَـدة الـحـاكِـم "زِيـاد بـن أبـِيـهِ" الَّـذي زوّد "أبـا الأسـود" بـثـلاثـيـن كَـاتِـبـا خَـطّـاطـا. و بـعـد أنْ جـرَّبـهـم جَـمـيـعـا، اخـتـار "أبـو الأسـود" واحِـدا فـقـط "لـبَـراعَـتـه و فَـصـاحَـتـه و جـوْدة خـطِّـه". قـام بـشَـكْـلِ الـقـرآن شـكْـلا تـامّـا.                                             

     و يـروي لـنا " أبـو عَـمْـرو الـدَّاني" فـي "الـمُـحـكَم..." ص3/4 أنّ "أبا الأسـود" قـال للـكاتِـب :" إذا رَأَيْـتَـنِـي فَـتَـحْـتُ شَـفَـتِـي بـالْـحَـرْفِ فـانْـقُـطْ وَاحِـدَةً فَـوْقَـهُ، وَ إِذَا كَـسَـرْتُـهَـا فَـانْـقُـطْ وَاحِـدَةً  أَسْـفَـلَـهُ، وَإِذَا ضَـمَـمْـتُـهَـا فَـاجْـعَـلِ الـنُّـقْـطَـةَ بـيْـن يَـدَيِ الْـحَـرْفِ، فَـإِنْ تَـبـِعَـتْ شَـيْءً مِـنْ هَـذِهِ الْـحَـرَكَـاتِ غُـنَّـةٌ  فـانْـقُـطْ نُـقْـطَـتَـيْـنِ." و كـان يُـراجِـع كـلَّ صَـفـحـة إلـى أنْ أكـمـل نَـقْـطَ الـمُـصْـحَـف.                                                                               

    مـن خـلال هـذا الـنـص يـكُـون "أبـو الأسـود" قـد أوجـد حـلاًّ لـكـتـابـة الـفَـتـحـة (نُـقـطـة فـوق الـحـرف) و الـضـمـة(نُـقـطـة عـلـى يَـسـار الـحـرف) و الـكـسـرة (نُـقـطـة تـحـت الـحـرف)

     و " الـغُـنَّـة " أيْ الـتَّـنـويـن. و بـقِـي الـسُّـكـون و الـمـد و الـشـدة و الـوصـلـة بـدون حـل.                                                                                              

    و قـد احـتـفـظـتْ لـنـا الـمَـصـادِر بـنـسـخ مـن الـمَـصـاحِـف مَـنْـسُـوبَـة إلـى الـخَـلـيـفـة  " عُـثـمـان بـن عَـفَّـان" مَـنـقـوطـة عـلـى طَـريـقـة "أبـي الأسـود" اِسـتـطـعـنـا الـحُـصـول عـلـى لـوحـتـيـن مـنـهـمـا:                                                                             

    1= الـلَّـوحـة الأولـى هـي قِـطـعـة مـن سـورة 61 (الـصَّـف) الآيـة 14. حـيـث يـظـهَـر الـشَّـكـل واضِـحـا.

     2= الـلَّـوحـة الـثـانـيـة هـي قِـطـعـة مـن سـورة 62 ( الـجُـمُـعـة) الآيـة 1-4 و يـظـهَـر الـشَّـكـل فـيـهـا أيـضـا.

     

    ب = تَـلاَمِـيـذُ أبـي الأسـود: ظُـهُـورُ الـشَّـدَّة.

    بـعـد "أبـي الأسـود" أخـذ تَـلامـيـذه يـسِـيـرون عـلـى خَـطـواتـه و يُـحـاولـون مـا أمـكـن تَـعـمـيـم طَـريـقـتـه فـي الـنَّـقـط حـتـى تُـصـبـح الـعـمـلـيـة مُـوحَّـدة بـيْـن أكـبـر عـدد مُـمـكـن مـن الـنـاس و مـن الـمُـتـعـلِّـمـيـن. إنـهـا عـمـلـيـة صـعـبـة جـدا فـي دولـة تـمـتـدُّ مـن حُـدود الـهِـنْـد شـرقـا إلـى الـمَـغـرب غـربـا و مـن تُـرْكـيـا شَـمـالا إلـى الـسُـودان جـنـوبـا مـع غِـيـاب قَـنـوات إعـلامـيـة و تَـعـلـيـمـيـة كـالـمَـدارس و الـجـامِـعـات.                                   

    ولـقـد حـاوَل تَـلامـيـذ أبـي الأسـود أنْ يُـدخـلـوا تَـحـسـيـنـات عـلـى طَـريـقـتـه فـي الـنَّـقـط. فـنـجـدهـم قـد اسـتـعـمـلـوا الألـوان لـكـي يُـصـبـح الـنـقـط أكـثـر وُضـوحـا. و لـكـن كـل جِـهـة كـانـت تـخـتـار ألـوانـهـا. فـفـي الـعِـراق مـثـلا كـانـوا يـسـتـعـمـلـون الـلَّـون الأحـمـر لإظـهـار نُـقـط الـشـكـل والـهـمـزة فـي الـوقـت الَّـذي كـان فـيـه أهـل "الـمَـديـنـة" يـضَـعـون نُـقـط الـشـكـل بـالـلَّـون الأحـمـر و خـصَّـصـوا الـلَّـون الأصـفـر للـهـمـزة. أمـا الأنـدلـسـيون و الـمـغـاربة عُـمـومـا فـقـد أخـذوا طَـريـقـة أهـل "الـمَـديـنـة" وزادوا الـلَّـون الأخـضـر لإظـهـار ألـف الـوصـل. و هـذا الإخـتـلاف دَليـل كـافٍ عـلـى أنَّ طَـريـقـة أبـي الأسـود لـم تـتـعـمَّـم.                    

    و لـكـن الـشَّـدَّة حَـظِـيَـتْ بـاهـتـمـام كَـبـيـر فـي هـذه الـفـتـرة. وقـد قُـدَّمَـتْ مَـجـموعـة مـن الـحُـلـول لـهـا. فـفـي مَـرحـلـة أولـى اخـتـاروا قَـوْسـًا صَـغـيـرا مَـفـتـوحـا نـحـو الأعـلـى ( ) لـكـي يـسـتـعـمـلـوه كـشـدَّة:                                                                     

      = فـالـشَّـدّة بـالـفـتـحـة كـانـت قـوسـا فـوق الـحـرف مـع نُـقـطـة فـوقـه هـكـذا (  ).         

    = الـشَّـدّة بـالـضـمـة كـانـت قـوسـا فـوق الـحـرف مـع نُـقـطـة عـلـى يـسـاره هـكذا(  ).        = الـشَّـدّة بـالـكـسـرة كـانـت قـوسا تـحـته نُـقـطة يـوضَع تـحـت الـحرف هـكـذا(   ).       

     

    و فـي مَـرحـلـة ثـانِـيـة كـان لابـدّ مـن الـتَّـخـفـيـف بـعـض الـشـيء، فـتـمـت إزالـة الـنـقـطـة عـن الـشَّـدّة و أصـبـح الـقـوس كـافـيـا لـوحـده. و هـكـذا أصـبـحـت:

    = الـشَّـدّة بـالـفـتـحـة قـوسـا مَـفـتـوحا نـحـو الأعـلـى يُـوضَـع فـوق الـحـرف هـكذا (  ).

     =  الـشَّـدّة بـالـكَـسـرة قـوسا مَـفـتـوحا نـحـو الأسـفـل تـحـت الـحـرف هـكـذا (  ).        

     = الـشَّـدّة بـالـضَّـمة قـوسا مَـفـتـوحا نـحـو الأسـفـل يُـكْـتَـبُ فـوق الـحـرف هـكـذا (  ).

    و الـجـدول الـتـالـي يـلـخِّـص الـفـقـرتـيـن الـسـابـقـتـيـن:

    الـشَّـدَّة بـالـضَّـمَّـة

    الـشَّـدَّة بـالْـكَـسْـرَة

    الـشَّـدَّة بـالْـفَـتْـحَـة

     

     

     

     

    الـمَـرْحَـلَـة الأُولَـى

     

     

     

    الـمَـرْحَـلَـة الـثَّـانـيـة

     

     

    ت = تَـلاَمِـيـذُ أبـي الأسـود: ظُـهُـورُ الإعْـجَـام.

     

    إذا أخـذنـا الـقـامـوس و بـحـثـنـا عـن مَـعـنـى كـلـمـة "إِعْـجَـام" فـإنَّـنـا سـنـجـد:

    = الإعـجـام: إِزَالَـةُ الـغُـمُـوضِ. وَ هُـو مَـصْـدَرٌ عَـلـى وَزْنِ " إِفْـعَـال " = أَعْـجَـمْـتُ الْـكِـتَـابَ: وَضَّـحْـتُـهُ و أَزَلْـتُ غُـمُـوضَـهُ. = الـمُـعْـجَـمُ= هـو الـقَـامُـوسُ الَّـذِي يَـشْـرَحُ مَـعْـنَـى الـكَـلِـمـات.

    الإعـجـام فـي الـقـامـوس هـو الإيـضـاح و الـتَّـفـسـيـر. وفـي الإصـطـلاح يَـعـنـي وضْـع الـنُّـقـط  فـوْق أو تـحـت الـحُـروف ذات الـرَّسـم الـمُـتـشـابه لـتـمـيـيـزها مـن بـعـضـها. بـهـذه الـطَّـريـقة وحـدها حافَـظـت الـكِـتـابة الـعـربـية عـلـى نـفـس رسْـم الـحـروف الأربـعة عـشـر، و ضاعَـفـتـها بـفـضْـل نُـقَـطِ الإعـجـام.                                                                          

    فـعـنـدمـا كَـثُـرتِ الْـكِـتـابـة و انـتـشـر الـمَـكـتـوب أصـبـحـتْ الأخـطـاء فـي الـقِـراءة شـائِـعـة بـكـثـرة. أي الـخـطـأ فـي قـراءة الـكـلـمـة نـفـسـهـا أيْ مـا يُـعْـرَفُ بـ "الـتَّـصْـحِـيـف". و قـد إحـتـفـظـتْ لـنـا كُـتُـبُ الـتـاريـخِ بـبـعـض الـنـمـاذج مـن "الـتَّـصـحـيـف" و مـنـهـا مـا أدّى إلـى مـآسـي إنـسـانـيـة. سـنـورد مِـثـالـيْـن فـقـط:

    = الـمِـثـال الأوَّل: حـادِثـة وقـعـتْ فـي عـهـد الـخَـلـيـفـة "عُـثْـمَـان بـن عَـفَّـان" الَّـذي عـيَّـن حـاكِـمـا  عـلـى مِـصـر. و فـي رِسـالـة تَـعـيـيـنـه جـاءت الـكـلـمـة الـتـالـيـة "           " بـدون نـقـط الإعـجـام فـي الـجُـمـلـة الـتـالـيـة:" إذَا جَـاءَكُـمْ رَسُـولـي فـاقْـبَـلُـوهُ" و لـكـن سِـكـرتـيـر الـحـاكِـم قـرَأهـا: "فـاقْـتُـلُـوه". وهـكـذا تـسـبـب غِـيـاب نُـقـط الإعـجـام فـي قِـراءة خـاطـئـة و قـتْـل رجـل بَـريـئ.                                                                                

    = الـمِـثــال الـثـانـي: وقـع فـي عـهـد الـخَـلـيـفـة الأُمَـوي سُـلَـيْـمـان بْـن عَـبْـد الْـمَـلِـك (تُـوفِـيَ 99 هـ / 718 م). فـفـي ردِّه عـلـى رِسـالـة مـن حـاكِـم يـسـتـشـيـره فـي مَـجـمـوعـة مـن  تِـسْـعـة مَـسـاجـيـن، جـاءت الـكـلـمـة الـتـالـيـة :"          " بـدون نُـقـط الإعـجـام فـي الـجُـمـلـة الـتـالـيـة: " أنْ احْـصِ الـمُـخَـنَّـثِـيـن" فـقـرأهـا الـكـاتِـب " أنْ اخْـصِ الـمُـخَـنَّـثِـيـنَ " فـأخْـصـاهُـم[1] الـحـاكِـم. و هـكـذا أيْـضًـا تـسـبَّـب غِـيـاب نُـقـط الإعـجـام فـي قِـراءة خـاطِـئـة

     و فـي مـأسـاة إنـسـانـيـة.                                                                        

    و إذا كـان هـذا الـحـال فـي رسـائـل لا تـتـجـاوز عـادة صَـفـحـة واحـدة، فـإنَّ كِـتـابـا مِـثـل "الـمُـصْـحَـف" عـلـى الـرَّسـم الـعُـثـمـانـي، أي بـدون نُـقـط الإعـجـام و لا حـركـات سـيُـؤَدِّي بـدون شـك إلـى أخـطـاء كَـثِـيـرة جـدا فـي الـقِـراءة خُـصـوصـا عـنـد أولـئـك الَّـذيـن لا يـحـفـظُـونـه. و بـاعـتـبـاره الـكِـتـاب الـمُـقَـدَّسَ و الأكـثـر قِـراءة، فـإنَّ مِـثْـل هـذه الأخـطـاء لا يُـمـكـن قُـبـولـهـا.                                                                                

    الـعـصـر الـعـبـاسـي الأوَّل سـيـعـرِف الـظُّـهُـور الـمُـنـظَّـم لـنُـقـط الإعـجـام و الإسـتـمـرار فـي إسـتـعـمـالـهـا إلـى الـيـوْم.                                                                       

    الَّـذي اِخـتـرع الإعـجـام هـو " نَـصْـر بـن عَـاصِـم"، و هـو تِـلـمـيـذ لِـ "أبـي الأسـود" و الَّـذي يـسـمِّـيـه "الـجـاحِـظ" "نَـصْـر الْـحُـرُوف" وذلـك لـكـثـرة اشـتـغـالـه بـهـا إلـى أنْ تُـوفِـيَ سـنـة 89 هـ / 708م.                                        

    و هـكـذا لـم يـعـد الـخـلْـط مُـمـكـنـا بـيْـن الـحُـروف الـمُـتـشـابـهـة فـي الـرَّسـم. و أصـبـح مُـمـكـنـا الـتَّـمـيـيـز و بـسُـهـولـة بـيـن الـحـاء و الـخـاء والـجـيـم ...إلـخ.                      

     الـنَّـتـيـجـة الأُولـى كـانت هـي إعـادة تَـرتـيـب الـحُـروف الـعـربـيـة حـيـث أصـبـحـتْ كـمـا نـعـرِفـهـا الـيـوم.                                                                                

     الـنَّـتـيـجـة الـثـانِـيـة هـي سُـقـوط  "الـنـقـط" عـلـى طَـريـقـة "أبـي الأسـود الـدؤلـي"  كـمـا سـنـشـرَح ذلـك فـي الـفَـقـرة الـخـاصـة بـالـعـصـر الـعَـبّـاسـي.

    إنّ ظُـهـور الإعـجـام لا يـعـنـي تَـمـامـا أنّ تَـعـمـيـم اسـتـعـمـالـه كـان سَـريـعـا بـل كـان بـطـيء جـدّا لـسـبـبـيْـن مَـوضـوعـيـيْـن و آخَـر ثَـقـافـي ذاتـي. الأول هـو أنّ الإخـتـراعـات فـي الـعـلـوم الإنـسـانـيـة بـطـبـيـعـتـهـا بـطـيـئـة الإنـتـشـار حـتّـى فـي وقـتـنـا الـراهـن رغـم ثـورة  الإتـصـالات الـهـائـلـة الـتـي يـعـرِفـهـا. و الـثـانـي غـيـاب قـنـوات الـتَّـعـمـيـم مـن مـدارس و جـامِـعـات و أكـاديـمـيـات و صَـحـافـة...إلـخ. أمـا الـسـبـب الـثَّـقـافـي فـهـو ذاتـي عـربـي بـالأسـاس. فـبـالإضـافـة إلـى الـطَّـبـيـعـة الـشـفـوِيـة لـلـثَّـقـافـة الـعـربـيـة بـقـي الإنـسـان الـعـربـي كـفـرد يـفـضِّـل الـكِـتـابـة بـدون إعـجـام و إذا مـا تـوصَّـل مـثـلا بـرسـالـة مُـعْـجَـمـة إعـتـبـرهـا إهـانـة لـه لأنّـه يـعـتـبـر أنّ كـلَّ إنـسـان عـربـي قـادِر عـلـى الـفـهْـم و الـقِـراءة بـشـكـل سَـلـيـم دون أنْ يـحـتـاج لا إلـى نُـقـط الإعـجـام و لا إلـى الـشـكـل. بـكـل بَـسـاطـة الـعـقـلـيـة الـعـربـيـة فـي تـلـك الـمـرحـلـة و لـقُـرون بـعـدهـا إعـتـبـرت كـل هـذه الـتـطـوَّرات و الإخـتـراعـات مـن إحـتـيـاج غـيْـر الـعـرب.                                                     

                                                                           

    ج = بَـعْـضُ الْـنُّـصُـوصِ الأُمَـوِيَّـة.(أُنْـظُـرْ الـلَّـوحـات الـمُـرافِـقـة)

    سـاعـدتْـنـا الـظُـروف فـي الـحُـصـول عـلـى مَـجـمـوعـة مـن الـوثـائـق الَّـتـي تـعُـود للـعـصـر الأمـوي. و رغـم أهـمـيـتـهـا الـكَـبـيـرة فـي مَـوضـوعـنـا إلا أنَّـهـا و للأسـف لا تـتـعـدَّى سـنـة 72هـ / 692م. و مـن مَـجـمـوع هـذه الـوثـائـق، اِخـتـرنـا مـا يـلـي:

    1= شـاهِـدة سـد مُـعـاوِيـة وهـي تَـعـود إلـى سـنـة 58 هـ / 678م وهـي مـن سـتـة أسـطـر قَـصـيـرة  و لا تـتـعـدَّى ثَـلاثـيـن كَـلـمـة.

    2= شـاهِـدة قـبـر ثـابـِت بـن يَـزيـد الأَسْـعَـدِي/ الأشْـعَـري وهـي تَـعـود إلـى سـنـة 64 هـ / 684م و هـي عِـبـارة عـن إثـنـي عـشـر سـطـرا أطـولـهـا يـتـكـوَّن مـن خـمـس كَـلـمـات.

    3= الـنـقـش الـداخِـلـي لـقُـبَّـة الـصَّـخْـرة و هـي تَـعـود إلـى سـنـة 72 هـ /692 م.

    4= مَـجـمـوعة مـن الـحُـروف مـأخـوذة مـن عـدد مـن الـبَـرْدِيـات تـعـود إلـى فَـتـرات مُـخـتـلـفـة مـن الـعـصـر الـرَّاشِـدي و الأمـوي.

     

    مـن خِـلال هـذه الـوثـائـق و غـيْـرهـا يُـمـكـن أن نَـقـول:

    1= الـكِـتـابـة الـعـربـيـة أصـبـحـت كِـتـابـة سَـرِيـعَـةَ و أكـثـر طَـواعـيـة.

    2= كـل الـحُـروف بـدأت تـأخُـذ شـكـلـهـا شـبـه الـنـهـائـي الَّـذي نـعـرفـه الـيـوْم.

    3= الألـف كـحـرف مـد طَـويـل لا يُـكـتـب فـي وسـط الـكـلـمـة.

    4= بـعـض الـكـلـمـات جـزء مـنـهـا فـي آخِـر الـسَّـطـر و الـجـزء الآخـر فـي الـسـطـر الـمُـوالـي.

    5= ظُـهـورُ بـعـض نُـقَـط الإعـجام عـلـى بـعض الـحُـروف لـتَـمـيـيـزها مـن بـعـضـها فـي شـاهدة الـسـد و نـقـش قُـبـة الـصـخـرة وغـيـابـها تـمـاما فـي شـاهـدة قـبـر ثـابـت والـبـرديات.

     

     بـصِـفـة عـامـة، و إلـى حـدود هـذا الـعـصـر، هـنـاك وضـوح أكـبـر فـي الـكِـتـابـة الـعـربـيـة، و مُـحـاولات جـادّة لـتَـطـويـرهـا و تَـسـهـيـلـهـا مـع عـدم اِنـضـبـاط الـجَـمـيـع لـمُـحـاوَلات الـتَّـوحـيـد. هـذه الـجـهـود فـي الـنَّـقـط سـتـعـرِف شـكـلـهـا الـنـهائـي فـي الـعـصـر الـعـبـاسـي الأوَّل عـلـى يـد الـعـالِـم الـلُّـغـوي الـكَـبـيـر الـخَـلِـيـل بـن أحـمـد الـفَـراهِـدِي.  

      من تاريخ الكتابة العربية (3)
                  

     

                من تاريخ الكتابة العربية (3)


    من تاريخ الكتابة العربية (3)



                 بقلم زكرياء قاسم وعلي 15-04-2012  بروكسيل – بلجيكا

     

     

     


    [1] Castrer : أَخْـصَـى / يُـخْـصِـي

     

     
    sounnif@gmail.com
    Previous Tab                     للمشاركة إضغط هنا                      Next Tab
     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     لانا راتب المجالي

    بروكسيل الأدبية ترحب بكل إبداعاتكم

    bruxellesaladabiya@gmail.com

    Partager via Gmail

    1 تعليق
  • بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
    Website counter 

     

    ثورة السلام في رحاب رسالة الغفران (2)

     

     

    فؤاد اليزيد السني
    إبداعات الكاتب

     ثورة السلام في رحاب رسالة الغفران 

     نافذة البحر

     ثورة الياسمين في رسائل الغفران 

     

     

     

     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     

                                    ثورة السّلام في رِحاب رِسالَة الغُفْران

                                           ثورة ال25 يناير المجيدة

     

     ثورة السلام في رحاب رسالة الغفران (2)

        

                               ثَوْرةُ السّلام في رِحاب رِسالَة الغُفْران

     

         استبشرت خيرا بثورة الياسمين، التي أطاحت بأول طاغية من مصاصي دماء شعبه المستضعف، والمهدور الكرامة. استبشرت واستفتحت، وعدت إلى حياتي الروتينية المعتادة، تحت سماء بروكسيل الرمادية، وأنا جد مفتون، بما حصل لي، من مشاهدات ورؤى خارقة وعجيبة، عقب أحداث ثورة 14 يناير بتونس الحبيبة. ومرت علي بضعة أيام، إن لم أقل أكثر، وأنا ما زلت هكذا، عالقا ما بين الحلم المُرتَجى، واليقظة الواقعية المُرّة. وجاء ذاك اليوم القاصم لظهر البعير، وسقطت القشة على متن الحيوان الخرافي فكسرت ضلوعه الوهمية، وسقطت بالمناسبة وافتضحت، كل تلك "الفزّاعات الإسلاموية"، والإرهابية، المنصوبة من قبل حكام الفساد، في ربوع المدن العربية، وسقط معها بالمناسبة، جدار الخوف العربي. لقد كان يومها يوم جمعة، الموافق ل25 من شهر يناير، من التقويم الشمسي. وكان الوقت صباحا، لهذه الجمعة المرتقب فيها، تقاطر الملايين من أبناء مصر العزيزة، على ميدان التحرير، للتعجيل بإسقاط نظام الطاغية الفاسد، حسني مبارك. وكنت حينها واقفا على الرصيف رقم (2)، في انتظار قدوم القطار المتجه إلى بروكسيل العاصمة. كنت شاردا نوعا ما، وإذا بغمامة زرقاء تتخطفني، فما شعرت إلاّ وأنا محمول على متن طبق طيار، صحبة ملاك تعرفت في قسماته فورا، على الملاك "منصور البُراقي"، الذي كان قد أقلني في سفرتي المِعْراجِيّة السابقة إلى رحاب جنان الغفران. وتعجبت من أمري، وأنا غير مصدق بالمرة، بتكرار هذا الحدث الإعجازي، وبصحبة الملاك نفسه. وإذا بصوت الملاك المتميزة نبراته، عن نبرات أصواتنا نحن البشر يخاطبني قائلا:

    -        مرحبا بك يا أبا اليزيد، فهذا اليوم له شأنه في تاريخ الأمة العربية !

    وتلا متمثلا بقوله تعالى من كتابه العزيز:

    -        " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق." صدق الله العظيم.

    وابتسم في وجهي ابتسامة المنتصر، وأشار بسبابته نحو الشاشة العريضة لمركبتنا الفضائية، فدهشت من رؤيتي لمحطة نزول، مزدانة بعدد لا يحصى، من الشعل الشُّهُبِيّة، المختلفة الألوان. وحين هممت باستفساره، جاءني رده تلقائيا:

    -        لقد انتهت سفرتنا الخارجة عن الزمن البشري الطبيعي، وهذه المحطة البُراقِية التي تشهدها أمامك، تدعى عندنا ب"ذات الصراط، ألف لام، ميم " وتلقب عند بعضنا ب"ذات الأنوار"، وهي أقل درجة من المحطة الكبرى التي ندعوها ب"أم البرق، ياسين"، والتي نزل فيها الحبيب المصطفى،خلال رحلته المِعْراجِيَة، التي قادته لغاية سُدْرَةُ المنتهى.

    وما هي إلا لحظة غير اللحظات، وإذا بالملاك البُراقي منصور، يسلمني إلى ملاك آخر، كان في انتظاري، قائلا:

    -        هذا مرشدك "نوران" !

    واختفى عن نظري في رمشة عين. وكدت أشك فيما يحصل لي، وإذا بمرشدي الجديد "نوران" يطمئنني قائلا:

    -        السلام عليكم، ومرحبا بك عندنا، في هذا اليوم السعيد، الذي لا يشبه الأيام السالفة في شيء.

    فقلت له مستفسرا، والدهشة تغمرني:

    -        من ذا الذي سعى في استدعائي ثانية؟

    -        شيخ المعرة، بطبيعة الحال، لأمر جلل قد حدث عندنا، وهو الآن بسبب الحدوث عندكم. وهذا الخلاف، إن أحببت، ناتج عن سبب الفارق الزمني بيننا وبينكم. أو بعبارة أدق، بسبب توقيتكم الزمني النسبي، ولا زمنيتنا نحن، سكان الباقية.

    فأجبته قائلا:

    -        سبحان الله ! أنا الذي لم أكد أصدق دعوته لي قبل بضعة أيام.

    فأجابني، وهو يلمع ويشع، في بزّته الفضائية المزركشة:

    -        ما على الرسول إلا البلاغ.

    وسار بي على متن مركبة زجاجية شفافة، كنا بداخلها وكأننا في جوف قطرة ماء مكبرة. وراحت تطوي بنا الفضاءات، والمجرات الكونية المتناثرة هنا وهناك، ولا هدير محرك يسمع لها، ولا اهتزاز، ولا ذبذبة، فقلت له مندهشا:

    -        ما سر هذه المركبة العجيبة؟

      فأجابني كالملاك السابق، متمثلا بقوله تعالى:

    -        " فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق".

    وأضاف قائلا:

    -        سبحان الحي القيوم، ربّي ربّ العزة عما يصفون، بقوله من كتابه العزيز "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرُجُ إليهم في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون".

    واكتفى بهذه الشهادة الآياتية، الإعجازية. بينما رحت متعجبا في نفسي، وقد خطرت ببالي موسوعة "الفتوحات المكية"، للشيخ محي الدين بن عربي. وبالخصوص، الباب الثامن من المجلد الثاني، المتعلق بمعرفة أرض الحقيقة، وبحارها ومراكبها العجيبة، وخلقها المتفاوتون في البنية والأحوال. وفي هذه اللحظة فقط، من التأمل الداخلي، خطر ببالي، بأن الشيخ محي الدين، قد يكون هو الآخر، ممن جابوا في أسفارهم الروحانية، مثل هذه الآفاق الخارقة. وأدرك الملاك، بحدسه وبعلمه الملائكي، المركبان فيه بحكمة إلهية، ما كان يدور في خلدي، فبادرني قائلا:

    -        نعم أنا من كان في خدمة الشيخ محي الدين بن عربي، إبان زيارته الأخيرة عندنا.

    وكما تحدث لدى النائم، تداعيات الصور والرؤى، بدون أي رابط منطقي، أو زمني يربط بينها، وجدت نفسي للحظة، عند مدخل ساحة ميدانية، لا تقدير ممكن لمساحتها اللاّ متناهية، بتقديراتنا الفيزيائية الأرضية. وقد قفل مرشدي الملاك "نوران" سابحا بقطرته المائية، عبر سعة آفاق لا حدود لها. وكان إحساسي الوليد من جراء هذا التحول الفجائي، تسوده الطمأنينة، والهدوء. بل وسكينة ربانية، منبعثة من أعماق روحي، هذه الروح المجهولة، التي تعرفت لأول مرة في حياتها، على طبيعة هذه النعمة الإلهية. إحساس لا يعادله أي إحساس، أو أي ركون وخضوع إلى ملذات شهوانية جسدية. إحساس إذا صح التعبير، باللاّ نهاية التي لا تتحدد بأي مظهر خارجي زائف. إحساس بالتصالح الكوني، مع الإنسان الكامل. وشعور حقيقي، بمعرفة وإدراك ما معنى "الخلود الأبدي".

         وفي غمرة هذه التأملات، النابعة من أعماق روحي الجديدة، ومن إنساني الذي لم أتمكن من سبر أغواره، بهذا العمق من قبل، جاءني الخطاب، من رجل تمثل لي فجأة، على مدخل ساحة الميدان، في هيأة مخلوق تعرفت في قسماته، كما في حلته الفاخرة، على رجل سبق لي والتقيت بِه، في رحلتي السماوية السابقة. وقد سار ماشيا نحوي ومنشدا في آن:

                          إنما التّهْنِآتُ لِلْأكفاءِ

                                         ولِمَن يُدنّي من البُعَداء

    فقلت على البديهة:

    -        أبو الطيب المتنبي !

    فأجابني:

                        وأَسْري في ظَلامِ اللَّيْلِ وَحْدي

                                            كَأَنّي مِنْهُ في قَمَرٍ مُنير

    -        مرحبا بعودتك يا أبا السعود! فهذا يوم نؤرخ له بدمائنا وكرامتنا العربية، التي كان يحسبها العالم بأنها قد مضت بلا رجعة.

    فاستفسرته عن هذه الدعوة الفجائية:

    أوليس شيخ المعرة هو من دعا في طلبي؟:

    -        بلى، ولكن لأسباب طارئة كلفني باستقبالك، وإخبارك عن سبب هذه الدعوة الفجائية. وبالمناسبة إن شيخنا أبا العلاء كما تعرف، قد راح في مهمة لغوية عاجلة. لقد راح إلى الجنة "العثمانية" مستقصيا لمصادر وأصول مصطلح "البَلْطَجِيّة"، الذي دخل مجتمعكم المدني، كما قاموسكم الجنائي مؤخرا. ولسوف يكون حاضرا معنا في احتفالات عرس هذه الليلة الميدانية الخالدة. ولقد أوصاني أن أطلعك على هذا الحفل المبارك، المتعلق بالمستجدات الثورية على أرض مصر الغالية. نعم تلك البلاد الحبيبة التي قلت فيها زمن كنت من أبناء الفانية:

                          أَقَمْتُ بِأرضِ مِصرَ فلا ورائي

                                  تخبُّ بيَ الرّكابُ ولا أمامي

                          ومَلّني الفِراشُ وكان جَنْبي

                                  يملُّ لقاءه في كُلِّ عام

                          وقليلٌ عائدي سقِمٌ فُؤادي

                                  كَثيرٌ حاسدي صَعْبٌ مُرامي

    لقد كنت سقيما حين مقامي بها يومها، ومتذمرا من حكامها الذين كانوا يعيثون فيها فسادا آنذاك. أما اليوم فبعد ثورة شباب "الفيس بوك"، ثورة (ال25 يناير)، ثورة محاربة الفساد، واسترجاع الكرامة، التي لا تساوم على مبدئها، والرأي الحر المسالم، الذي أصبح قادرا على الإطاحة بأكبر حاكم متكبر ومتسلط، فإنني أحمد الله أنني تكهنت بهذا، ونبهت ودعوت إليه في إحدى قصائدي، التي تبنت حكمتها إذاعة الجزيرة، حيث أقول:

                          الرّأيُ قبلَ شجاعةِ الشُّجعانِ

                                      هو أوّل وهي المحلُّ الثّاني

                           فإذا هما اجْتَمعا لِنفْسٍ حُرّة

                                       بَلَغت في العَلْياءِ كُلَّ مَكان

                           ولَرُبّما طَعنَ الفتى أقْرانَه

                                      بالرّأْيِ قبلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ

                           لَوْلا العُقولُ لكانَ أدْنى ضَغيم

                                     أَدْنى إلى شَرَف في الإنْسانِ

    كان ينشد، وأنا حال كوني شاردا، ولا ازداد إلا امتنانا بهذه الأبيات الرائعة. وما أن انتهى، حتى أخذني بالأحضان ودموع الكبرياء جارية على شواربه قائلا:

    -        أبشر يا أبا اليزيد، فلقد منّ المولى عز وجل على شباب الكنانة، ومدهم بجنود من عنده، لا يعلم عددها إلا هو. وها هم الآن، وفي هذه الأثناء بالذات، في ميدان التحرير، وقد خرجوا بالملايين، يهتفون بالعهد الجديد للعروبة والإسلام، من بعدما أطاحوا بالطاغية المتكبر العنيد، الذي كان يحسب نفسه بعناده المستميت، من سلالة الفراعنة الخالدين. فلتحيا العروبة والمجد للشهداء !

    فتعجبت من تسارع هذه الأحداث، التي تركتها حين سفري إلى هنا، في حيز الإمكان، فقلت له:

    -        والله أنني  لم أكن أتصور نبأ سارا مثل هذا، وبمثل هذه السرعة، خصوصا وأن ركائز الحكم الفاسد، كانت تبدو متأهبة للعدوان والإجرام، بكلابها "البَلْطَجِيّة" المسعورة، التي سلطتها على مَدنيّين عزل، وبإذاعاتها الرسمية المسترسلة ليل نهار، في بث الأكاذيب والافتراءات، وبموقف الجيش نفسه، الذي بدا غامضا ومترنحا بين، بين ...

    وقاطعني قائلا:

    "ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين" يا أبا اليزيد. لا تستغرب بسبق الأحداث عندنا، لأننا نعيش  خارج دائرتكم الزمنية النسبية. ونحن نعي بحكمة ربانية، خصنا بِها المولى، نحن أبناء الخالدة، وركبها في طبعنا التمثيلي، بحيث أنه بإمكاننا الرُّؤْيَوي الخاص بنا، أن نرى مجريات الأحداث الدنيوية كمتلقين ومتفرجين، قبل حدوثها بزمن طويل عندكم، وهذا فضل ومنحة ألاهية وكرامة لنا نحن سكان الباقية. لا قدرة لنا على التدخل في هذه الأحداث، بل معاينتها فقط. بل إننا لا نتأثر بها مثلكم. وهذه الفرحة التي نبديها حيالها، هي من باب الكرامة العربية الإسلامية، وفضيلتها، التي كنا ذات يوم من أيام الدنيا، من أبنائها. وهي من جهة أخرى، مناسبة للوقوف أمام انتصار الحق والعدالة كما الحكمة الإلهية، التي ألهمنا إياها، ووعدنا ، الذي لا يخلف الميعاد.

    ثم توقف فجأة عن الكلام وتطلع إلي متفرسا في قسماتي وقال:

    -        أو ما انتبهت لبزتك المشعة، هذه التي عليك الآن؟

    وفوجئت بالفعل وأنا أتفقد أحوالي، ولباسي الجديد الذي لم انتبه إليه من قبل، وحين أردت استفساره بادرني قائلا:

    -        أو لم تحس وتشعر بتبدل روحي في إنسانك؟

    -        بلى ! أجبته، وهذا من لما أسلمني الملاك إلى هذه الخالدة.

    -        كل هذا بسبب البزة المِعْراجِيّة التي عليك. هذه التي ألبسك إياها الملاك "منصور" قبل أن يأتي بك إلى هنا. ومن خاصية هذه البزة السحرية، أن تجعل منك أنت الإنسان الفاني، أنت الذي لم يذق طعم الموت الدنيوي بعد، أن تعيش مؤقتا بيننا، بروح أهل ديارنا الفردوسية، وبكل كمالياتها وملذاتها المطهرة، وبتصوراتها الحاسوبية التي تفوق قدرة كل خيال بشري. وتمثل بقوله تعالى" هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يُسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحليم".

    -        بالفعل، هذا ما شعرت به من لما وعيت روحي بهذه الفضاءات اللّا متناهية.

    وأجابني مسترسلا:

    -        سميها ما شئت، نفسا أو روحا، إلا أنها في دقة سرها ومعجزتها الإلهية، لا تشبه باقي النفوس، ولا سائر الأرواح البشرية في شيء. على كل حال، لقد تنحى الطاغية عن الحكم، وها هو ذا فضيلة الشيخ القَرْضاوي الآن، في هذه الجمعة الأرضية المباركة، يؤم بالجماهير المليونية، صلاة جمعة النصر، في ميدان التحرير، تحت كاميرات إذاعة الجزيرة.

    -        سبحان مبدل الأحوال !

    -        نعم لقد استحضرناك يا أبا الخير، لتكون ضيفنا الليلة، وشاهدا بيننا على هذا العرس المثالي، الذي دعوناك إليه، كممثل لكل الدول

     

     

     ثورة السلام في رحاب رسالة الغفران (2)

     

    العربية السعيدة بهذا النبأ، بل ولكل المعذبين في الأرض المنتظرين لساعة الخلاص والفرج.

    وأشار مرشدي أبو الطيب نحو الميدان، وتقدمنا ماشيين جنبا لجنب، نحو الساحة وقد انتشرت فيها الخيام كحبات جواهر تلمع وتشع بملايين من الأطياف القزحية، هنا وهناك. وقد تخللتها ممرات من خالص تربة المسك، وحدائق مزدانة بكل أنواع وفصائل وأشكال، الورود والزهور والرياحين، التي لا يمكن أن يتصورها البال ولا خواطره. وراحت باقات من الشعل الاصطناعية، متفرقعة في فضاءات كوثرية، دونما إحداث لأية ضجة شبيهة بالصخب البشري. راحت تسطع بروقها الملونة على وجوه الحضور، وقد منحتها صفاء ليس بعده صفاء، وجلالا ليس بعده جلال، بهذه النعمة الربانية، نعمة المتعة بالخلود. وفي هذا الليل الميداني المضيء سناه، الذي لا يشبه بقية الليالي عندنا، من حيث أنه يكاد يشرق من صفوته، وسره الخلودي المستحوذ على سحر بهائه، لفت نظري رفيف وحفيف وخفقان حمائمي، لملايين الملايين من الأعلام والرايات والبيارق، البيضاء والخضراء. وشعرت برغبة ملحة في معرفة هذا الاختيار اللوني بالذات، حين بادرني مرشدي المتنبي قائلا،

    -        اللون الأبيض هو رمز للفل والياسمين والنيلوفر، وهو مجازا رمز لثورة السلام العربي القادم. أما اللون الأخضر فهو عنوان للصفاء الإسلامي وروحانيته الخالدة التي تسكن هذا السلام وتؤيده وتسهر على مسيرته العالمية. ولقد كان هذان اللونان رمزا لعلم مصرنا الحبيبة، في منتصف الثلاثينات.

    وإذا بقادم جديد، في حلة ملائكية يلتحق بنا قائلا:

    -        يا مرحبا ! يا ألف مرحبا بضيفنا الدنيوي.

    وما كدت أتبين بفراستي الشخصية من هو، بادره مرشدي المتنبي:

    -        عيد مبارك يا شيخ المعرة !

    -        وأي عيد يا فارس حمدان !  على كل حال إنه لا يشبه في شيء عيدك الذي قلت عنه:

                   عيدٌ بأِيّةِ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ

                                بما مَضى أَمْ لِأَمْرٍ فيكَ تَجْديدُ

    وبادر مرشدي المتنبي قائلا:

    -        قد كان ذاك في الدار الفانية، وبين قوم سقطت هممهم لغاية تطيري من عروبتي. أما اليوم فالكلام لضيفنا المعني بالأمر أن يقول لنا شيئا.

    فأجبت مرتجلا و ثورة العروبة ما تزال تغلي نيرانها في دمي البشري:

                              عيدُ الكَرامَةِ على جَبينِ مِصْرَ

                                       قَد أَضْحى لِفَجْرِ العُروبَةِ تَجْديدُ

                              فَعُدْ كُلَّ يَوْمٍ باللهِ عَلَيْكَ يا فَجْرُ

                                       فَأَرْضُ العُروبَةِ ظَمْأى لَكَ يا عيدُ !

                              ومِنْ زُرْقَةِ طَنْجَةَ لِخُضْرَةِ الخَليج

                                       قادِمٌ بها ثَوْرَةُ المَجْدِ جيلٌ يُريدُ  

                                              ===

                             وعَهْدٌ جَديدٌ لَبّى في تونُسَ النِّداءْ

                                        فأَضْرَمَ البوعزيزي النّارَ في الوقودْ

                              وفاضَتِ الزّوابِعُ والعَواصِفُ والرّياحْ

                                       فأَسْقَطَتْ أَوْثانَ حُكّام فَسادٍ تَسودْ

                              بِدايَةً لِجيلٍ جَديدٍ حامِلٍ بالفَلاحْ

                                          أَقْسَمَ العَهْدَ بِالزّحْفِ نَحوَ الخُلودْ

    -        بارك لكم الله في ثورتكم المدنية، يا شباب "الفيس بوك" !

    قال لي الشيخ ساخرا، واستدعاني لمصاحبته نحو الميدان لحضور الحفل المليوني. ومشى يتقدمني وروائح العطور المكية تفيض منه، وقد تهندم بحلة مصرية تقليدية، لم تزده إلا بهاء وجلالا، في النظر. وما هي إلا لمحة بصر، حتى تواجدنا ثلاثتنا: وأعني فارس حمدان، شيخ المعرة، وأنا، في وسط ميدان الحفل الفاخر، وقد حفت به مخلوقات لا يعدها إلا الذي خلقها. مخلوقات من مختلف الأجناس والأنواع، وأقصد، من الجن والملائكة والبشر الخالدين. جموع هنا وهناك، ولكن منتظمة في أخلاقيات احتفالية مسالمة ونظيفة. لا تسمع لها لغطا ولا فوضى، بل قيلا .. سلاما .. سلاما. عالم قد ضمخته العطور وزينته حور العين، وشباب قد تصنفهم من بين فتيان الفتوة. بالرغم من كل هذه التجمعات، فإنني كنت أخال نفسي في عالم فارغ بسبب اتساع مساحته، التي ليس لأي نظر بشري أن يحدها. وبسبب اكتسابي لروحي الجديدة المستعارة والمؤقتة، فإنه كان بإمكاني وبحسب رغباتي أن أسافر في تصوراتي وتمثلاتي إلى ما لا نهاية. وكان بإمكاني أيضا، أن أضفي عليها ما شاءت لي رغباتي، من سعة الخيال وآفاقه التصورية اللّا محدودة. وكالداخل في رؤية نبوية، أشار علي شيخ المعرة، بالتقدم نحو مكان خصص لنا، في قلب المنصة الهلالية، التي تتواجد من حيث مركزها، كجوهرة العقد، من هذه الساحة المترامية الأطراف. ولقد فرشت على الطراز العربي، وزينت بفرش بطائنها من استبرق وسرر موضونة قد اتكأت عليها قاصرات الطرف، كأنهن الياقوت والمرجان. واتخذنا مكاننا من بين هذه المخلوقات الحورية المطهرة، اللائي كن مشغولات بنثر الزهور من صحاف ذهبية، ورش ماء الورد، بمزهريات فضية، على كل قادم جديد.  فيما راح خدام من الملائكة المأمورين، الذين نعتهم شيخنا ب"البررة"، يطوفون علينا بأباريق من فضة وأكؤس بلورية من معين. وقد تعالت تسبيحات الحمد من هنا وهناك، حتى كدت أحسب نفسي، في يوم مشهود من أيام الحج. وجلست أخيرا، متخذا مجلسي على يمين الشيخ، فيما راح المتنبي في دردشة عاطفية مع إحدى زوجاته من مطهرات أهل الجنة. وتناولت مع الشيخ أطراف الكلام، وفي نفسي كنت أتمثل بتلك الأبيات الشعرية القديمة التي نسيت قائلها:

                            ولما قَضينا من مِنى كلّ حاجَة

                                       ومسّحَ بالأركانِ من هو ماسِحُ

                            وشُدّت على هُدُب المَهاري رحالُنا

                                       ولا يَفطِن الغادي للذي هو رائِحُ

                            أَخَذْنا بِأَطرافِ الأحاديثِ بَيْنَنا

                                       وَسالتْ بِأَعْناقِ المَطيِّ الأباطحُ

    وبينما نحن كذلك، وإذا بصوت منادي يطلب من شيخ المعرة، بالتقدم إلى منصة الخطابة، والتفضل بإلقاء خطبته المنتظرة من قبل الجماهير المليونية المنتظرة. وللحين استوى الرجل الحيوي الذي كنت أجاذبه أطراف الحديث عن موسوعته الأدبية، وقد اتخذ له صورة جديدة لشيخ جليل لا تزيده لحيته المشتعلة بياضا إلا وقارا ورزانة في عيون الحضور، وقد اشتعل رأسه شيبا. وتقدم نحو المنبر، وقد أطبقت سكينة ربانية على أجواء الميدان الغاصة، واستفتح قائلا:

         بسم الله الرحمن الرحيم، الذي ليس كمثله شيء، والصلاة والسلام على النبي المصطفى خير المرسلين، والعز والديمومة للمؤمنين المجاهدين، والحمد لله الذي أوجد الأشياءَ من عدم عدمه. وأوقف وجودها على توجه كلمه.  لنتحقق بذلك سرَّ وقدومِها من قِدمه. ونقف عند هذا التحقيق على ما أعلمنا من صِدقِ قِدَمه.

          يا أهالي هذا المقام المحمود ! يا من منحتم نعمة الخلد والأدبية، باسمكم نقيم هذا الحفل الرمزي المليوني، احتفاء بالبعثة العربية الإسلامية الكبرى، المنحدرة منها رسالتنا. إنها ثورة الكرامة من المحيط إلى الخليج. إنها بداية الطريق إلى قدسنا الخالدة. إنها تونس الغراء أمس، ومصر الأبية اليوم، والعراق غدا، وليبيا بعد غد، والبقية آتية بعدها، ولاحقة بها، لا ريب فيها. وإن جنود المولى عز زجل، تتوافد في هذه اللحظة، على جبهات القتال الأرضية، لتشد من سند المجاهدين الذين اشترى منهم الله أنفسهم، وتحبط مؤامرات الحكام  الفاسدين، ومن ساندهم من خونة ومرتزقة. أنظروا ... !

    وتوقف الشيخ الجليل عن الكلام، وأشار بسبابته نحو الفضاء، الذي اشتعل لتوه، منورا بالآلاف من المصابيح الحمراء، وتابع قائلا:

    إنها أرواح الشهداء هذه المصابيح التي تشاهدونها الآن، وهي قادمة من الشهيدة ليبيا. فلا حزن ولا خوف ولا ذل، بل الكرامة والشهامة والحرية لشعب الشهيد عمر المختار. وها هي ذي جنود ربك تطيح الآن بالطاغوت، الذي ظن بأن عبادته أولى بعبادة الذي لا يموت. والله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. !

    وردد الحضور من بعده مباشرة " الله أكبر .. ! الله أكبر .. ! الله أكبر .. !  

    ونزل الشيخ الجليل من منصته عائدا، في وسط غابة كثيفة من الأعلام الخضراء والبيضاء والحمراء هذه المرة، وقد انشقت صفوف الوفود أمامه، وتمثلتها في انشقاقها، كمعجزة انشقاق البحر، حين عبور النبي موسى عليه السلام. وحين انتهى به المقام إلى مجلسنا، استدعاني لمصاحبته في زيارة الاحتفالات الميدانية، بمختلف إنجازاتها، وتصوراتها الإبداعية. وللحين تجلت لي ساحة الميدان، وقد امتدت على مستوى نظري، وكأنها لوحة زيتية من أعمال الرسامين الانطباعيين. ومشينا بتؤدة ووقار بين أسراب من حوريات يوزعن الحلوى على الحضور، وقد تجملن وتزيين بحل وحلل مصرية تقليدية. وبينما أنا غارق في هذا الحلم الفردوسي، إذا بالشيخ يجرني من يدي نحو منصة رائعة المنظر قائلا:

    -        إنها منصتي المفضلة، إنها منصة شعراء صنعوا تاريخ الشهادة. وهم ممن كانوا قد استطابوا الموت عند الحرب. وهم الآن من قطان جنة " طيبة".

    واقتربنا من المنصة، وقد تأهب عليها شاعر في مقتبل العمر وقد اكتسى بلباس حربي إسلامي وتقدم قائلا:

    أنا قَطريّ بن الفجاءة المازني، ولقد سلم علي قومي ثلاثة عشر مرة بالخلافة، وأنا فارس وشاعر إسلامي مذكور، وأنا القائل:

                        أقولُ لها وقد طارتْ شَعاعًا

                                      من الأبطالِ وَيْحَكِ لن تُراعي

                        فإنّكِ لو سَألْتِ بقاءَ يَومٍ

                                     على الأَجَلِ الذي لَكِ لَنْ تُطاعي

                           فَصبرًا في مَجالِ المَوتِ صَبرًا

                                        فَما نَيْلُ الخُلودِ بمُستطاعِ

                           ولا ثَوْبُ البقاءِ بِثَوبِ عِزٍّ

                                       فيُطْوى عَن أخي الخَنَعِ اليَراعِ

                            سَبيلُ المَوتِ غايةُ كلِّ حيٍّ

                                       فَداعيهِ لأهْلِ الأَرْضِ داعي

                            ومَنْ لا يُعتَبَط يَسْأم ويَهرَمْ

                                      وتُسْلِمُهُ المَنونُ إلى انقِطاعِ

                            وما لِلْمَرءِ خيرٌ في حَياةٍ

                                      إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المَتاعِ

    وانتهى من إلقائه، وراح يسير خلف حورية مكلفة بمرافقة الحضور إلى مجالسهم، فيما تقدم إلى المنصة شاعر آخر، وهو في لباس حربي شبيه بمن تقدمه، وقدم لنا نفسه قائلا:

    أنا الشاعر، الفارس المقدام بشامة بن حزن النهشلي. وقد حزت على مقامي هنا، في هذه الجنان السعيدة، بما قدمت يداي من بطولات في الدار الفانية. وأنا القائل:

                         إنّا بني نَهشَلٍ لا نَدّعي لأبٍ

                                   عنْهُ ولا هو بالأبناءِ يَشْرينا

                          إنْ تُبْتَدَر غايةٌ يوماً لمَكْرُمَةٍ

                                    تَلقَ السّوابِقَ منّا والمُصَلّينا

                            ولَيْسَ يَهلِكُ منّا سيِّدٌ أبداً

                                     إلاّ افتَلَينا غُلاماً سيّداً فينا

                             إنّا لَنُرْخِصُ يومَ الرَّوْعِ أنفُسَنا

                                     ولَو نُسامُ بها في الأمْنِ أُغْلينا

                              بيضٌ مفارِقُنا تَغْلي مراجِلُنا

                                      نَأْسوا  بأموالِنا  آثارَ  أيْدينا

                               إنّي لَمِن مَعشَرٍ أفنى أوائلَهم

                                      قيلُ الكُماةِ ألا أينَ المُحامونا

                                لَوْ كانَ في الألْفِ منّا واحِدٌ فدَعوا

                                       مَن فارِسٌ خالَهُم إيّاهُ يَعنونا

                                 إذا الكُماةُ تَنَحّوا أن يُصيبَهُمُ

                                       حَدُّ الظُّباة وَصَلناها بأَيْدينا

                                 ولا تَراهُم وإن جلّتْ مُصيبَتُهُم

                                       معَ البُكاة على من ماتَ يَبْكونا

                                  ونَرْكَبُ الكُرهَ أحياناً فَيَفْرِجُهُ

                                      عنّا الحِفاظُ وأسيافٌ تؤاتينا

    وما كاد ينهي من إلقائه، حتى سمعنا هلاهل الإطراء  تتقاطر عليه من كل مكان. وقدم بعده فارس مدجج بالسلاح، وقدم لنا نفسه قائلا:

    أنا ابن عبدة، ولقد قدمت للاحتفاء بهذا اليوم الخالد من جنة "طيبة ". وأنا قد اكتسبت مقامي الدائم بينكم، بموقفي الدنيوي من الحاكم مروان بن الحكم، حين نبهته بظهور الفساد في الدّين، بل حاربته عليه. وأنا القائل:

                              إنّ الدّينُ أَودى بالفسادِ فقُل لَهُ

                                              يَدعْنا ورَأساً من مَعَدٍّ نُصادِمهْ

                               بِبيضٍ خِفافٍ مُرْهفاتٍ قواطِعٍ

                                               لِداوُدَ فيها أثرُهُ وخواتِمُهْ

                                وزُرْقٍ كسَتها ريشاً مَضْرَحِيّةٌ

                                               أثيثٌ خوافي ريشِها وقَوادِمُهْ

                                 بِجَيْشٍ تضِلُّ البُلْقُ في حَجَراتِهِ

                                                بيَثْرِبَ أُخْراهُ وبالشاّم قادِمُهْ

                                  إذا نحنُ سِرنا بينَ شَرْقٍ ومَغْرْبٍ

                                                تَحَرّكَ يَقظانُ التّرابِ ونائِمُهْ

    وما إن انتهى من إنشاده حتى صعدت ثلاث حوريات وفتحن علبا فضية طارت منها مآت الآلاف من الفراشات الملونة، التي راحت تكتب في الفضاء المشع، بتشكيلاتنا المنوعة، أبياتا شعرية بأحرف عربية في غاية الهندسة الكوفية. ثم إنهن غادرن المنصة، فيما صعد وتأهب

     

     

     

    للإلقاء، شاعر على ملامحه استماتة أهل مؤتة. وتقدم معرفا نفسه قائلا:

    أنا الفارس الحَريش بنُ هلال القُرَيعي. وأنا ممن شهدوا مع النبي فتح مكة ومعركة حنين. وأنا القائل يومها والمعركة حامية الوطيس:

                      شَهِدنَ مع النّبيِّ مُسَوّماتٍ

                                     حُنَيْنا وهي دامِيَةُ الحَوامي

                       ووَقْعَةَ خالدٍ شَهِدَتْ وحكّتْ

                                      سَنابِكَها على البَلَدِ الحَرامِ

                       نُعَرّضُ إلى السّيوفِ إذا التَقيْنا

                                      وُجوهاً لا تُعَرّضُ لِلّطام

                       ولَسْتُ بِخالِعٍ عني ثيابي

                                     إذا هَرَّ الكُماةُ ولا أُرامي

                        ولَكِنّي يَجولُ المُهْرُ تَحْتي

                                      إلى الغاراتِ بالعَضْبِ الحُسامِ

    وانتهى من الإنشاد، و عاد إلى مجلسه تتقدمه حورية من حوريات جنة "بدر". وقدمت امرأة في حلة ملكية بهية. خلتها في بداية الأمر من أعرابيات الجنة الخالدات، حين تقدمت قائلة:

    أنا الشاعرة العربية، عَمرَة الخَثعَمِيّة، وأنا من خوالد جنة " عرائس". ولقد منّ عليّ المولى بهذه الدرجة الفردوسية، تعويضا لي عن ابنيّ اللذين رثيتهما، بمنتهى الحزن البشري الكريم في الدار الفانية. وأنا القائلة:

                       لقَد زَعَموا أنّي جَزِعْتُ عليهِما

                                      وهَلْ جَزَّعٌ أن قلتُ وا بِأباهُما

                       هُما أَخْوا في الحَربِ من لا أخا لَهُ

                                     إذا خافَ يوماً نَبْوَةً فَدعاهُما

                         هُما يَلْبَسان المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ

                                     شَحيحانِ ما اسْتطاعا عَلَيْهِ كِلاهُما

                          شِهابانِ مِنّا أوقِدا ثم أُخْمِدا

                                      وكانَ سنىً لِلمُدلجينَ سَناهُما

                          إذا نَزَلَ الأرضَ المًخوفَ بها الرّدى

                                       يُخَفّضُ من جَأْشَيْهما مُنْصُلاهُما

                          إذا اسْتَغنَيا حُبَّ الجَميعِ إليْهِما

                                       ولَمْ يَنْأَ من نَفْعِ الصّديقِ غِناهُما

                           إذا افْتَقرا لم يَجْثِما خَشْيَةَ الرّدى

                                        ولَمْ يَخْشَ رُزْأً  مِنهُما مَوْلياهُما

                            لقَدْ ساءَني أن عَنّسَتْ زَوْجَتاهُما

                                        وأَن عُرِّيَتْ بعد الوَغى فَرَساهُما

                               يَلبَثَ العرشانِ يُستَلُّ منهُما

                                         خِيارُ الأواسي أنْ يَميلَ غَماهُما

    وما كادت تنهي من إنشادها، حتى صعد المنصة ولدان مخلدون من خدمة الجنة، وناولوها باقة من زهور حدائق الخلد، ورفعت للحين المنصة مختفية في موجة من التسبيح الملائكي، وكأنها لم تكن قط. وعرض علي الشيخ الجليل، وهو في غاية لذة الطرب التمثيلي، من الموروث الشعري الذي استمع إليه، أن نمشي نحو المنصة البرتقالية التي كانت قد تشكلت قبل حين أمامنا.  وسماها لي الشيخ ب"منصة القومية العربية" وقطانها آتون من جنة "طروب". وهي جنة شهداء الأغنية العربية المناضلة. وتوجهنا نحو المنصة التي بدت محاطة بجماهير غفيرة من عشاق الطرب للأغنية العربية. وإذا بقاصرة طرف قد تزيت بفستان مخملي مجوهر يخطف الأبصار، وتاج من خالص الأحجار الكريمة يكلل رأسها. وتصدرت المنصة تحمل في يدها محرمة بيضاء، وقد استرسلت في ترديد هذا المقطع للشاعر إبراهيم ناجي، الذي كان يبدو، بأن الحضور كانوا ينتظرونه بالذات:

                          أَعْطِني حُرّيتي أَطلِق يَدَيّا

                                      إنّني أَعْطَيتُ ما اسْتَبْقَيْتُ شَيئًا

                           آهٍ مِن قَيدِكَ أَدْمى مِعْصَمي

                                        لِمَ  أُبْقيهِ  وما  أَبْقى  عَلَيّا

                           ما احْتِفاظي بِعُهودٍ لَم تَصُنْها

                                        وإلامَ  الأَسْرُ  والدُّنْيا  لَدَّيا

    والجموع الغفيرة تردد بعدها " لمَ أبقيه .. وما أبقى عليّا .. يا سلام .. يا سلام .. !

    -        نعم إنها الخالدة أم كلثوم  بأطلالها، التي ملأت الدنيا العربية، وشغلت الناس، قال لي الشيخ.

    بالفعل لقد كاد يكون صوتها، بنفس النبرة البشرية التي عهدتها، لولا هذه المسحة الملائكية المكتسبة بهذه الديار الأبدية. وعرج بي الشيخ نحو منصة أخرى "خضراء"، تقع مباشرة من خلفها، قائلا لي بأنها لأمجاد مصر الثلاثينات. ووقفنا على حورية قد تزيت بلباس عروسة، وراحت تطرب الحضور بصوت علوي، وآهات الآه، تصاعد إلى منصتها من كل مكان. وراحت متممة لمقطعها:

                         أيُّها الخَفّاُق في مَسْرى الهَوى

                                            أَنتَ رَمْزُ المَجْدِ عُنْوانُ الوَلاءْ

                          نَفْتَدي بالرّوحِ ما ظَلَلْتَهُ

                                             ونُحَيّي فيكَ روحَ الشُّهَداء

                           خُضْرَةٌ تَبْعَثُ في النَّفْسِ الأَمَلْ

                                            وهِلالٌ لَيْسَ يَطويهِ الأَجَلْ

    ومن جديد سار بي الشيخ في اتجاه معاكس وهو يقول:

    -        هيا بنا إلى منصة "شعراء الثورة" وجلهم من الشباب. وهم في الواقع ما زالوا أحياء يرزقون في دنياكم، ومنهم من تغنى بقصائد لشعراء رحلوا. والفكرة هي عبارة عن تصور تمثيلي لبعض إخواننا الذين يعشقون هذا النمط من الشعر العامي.

    -         وأنت يا سيدي الشيخ؟ قلت له متسائلا.

    -        أنا تراثي ابن التراث العربي المعتق، يا أبا اليزيد ! وإن كنت لا أستهجن هذا الشعر الشعبي، الذي تستسيغه شعوبكم بالملايين، إن لكل مقام مقال.

    ومشينا نحو المنصة وقد مشت عليها، فرقة "بناتية " من العرب الأبكار، وقد تزين بفساتين حريرية مخللة بخيوط ذهبية متعة للناظرين، وقصرن من شعورهن المخللة بأنجم زهرية، على شاكلة الموضة النسائية، التي كانت جارية بالأندلس زمن الأديبة الشاعرة، ولادة بنت المستكفي. ورحن ينشدن أناشيد وطنية، كان صداها، فيما خيل لي، يصل أرضنا الدنيوية. وحين انتهين من إلقائهن، غادرن المنصة وسط موجة حريرية من التصفيق، وقدم شاب في بِدلة عصرية مقصّبة وتقدم قائلا:

    -        أنا الشاعر عمار يوسف، من شباب ثورة ال25 يناير، وقد ساهمت في هذه الثورة بقصيدتي "يا ساحة التحرير"، التي أعيد إلقاءها عليكم الآن:

    يا ساحة التحرير

     

    يا ساحة التحريرْ

    يا ساحة المصيرْ

    يا ساحة الكادح و الفقيرْ

    يا ساحة النساء و الرجالْ

    يا ساحة الآمالْ

    يا ساحة الإنجيلِ و القرآنْ

    يا ساحة الأفراحِ و الأحزانْ

    يا ساحة الأرواح

    حين تفتدي الأوطانْ

    بصدرِها الأعزل

    مصرُ كلّها

    تُقارعُ الطغيانْ !

    رسالة إلى المعتصمين في ساحة التحرير

    و مُلتحفاً بالظلامْ

    حملْتُ إليكم منَ الأمِّ

    ما هيّأتْ مِنْ طعامْ

    و قالتْ بُنيَّ تُقبّلهُمْ

    واحداً واحداً

    و تُبلّغهمْ مِنْ دموعي

    سلام !

    و تخبرهُمْ أنّ مصرَ

    منَ الشوقِ

    بعدَهُمُ لا تنامْ.

    وما أن انتهى من إنشاده، حتى تعالت صيحات " ارحل .. ارحل .. ارحل .. !!"  وصعد إلى المنصة شاعر قدم لنا نفسه قائلا:

    -        أنا الشاعر الثوري قبيل الثورة. وأنا من تنبأ برحيل الطاغية، يوم كان يتمتع بجهازه البوليسي القمعي، حين خاطبته يومها بلهجتنا المصرية قائلا له " ارحل بقى".

    اِرْحَلْ بَقَى

    لا أخْتارْناه ..
    ولا بايَعْناه نَجَح إزّاي .
    سُبْحانَ الله
    أَظُنّ أَفْصَحْ مِن كِدَة يَبقى عيبْ
    بحْبّك يا رَيِسْ
    وحُبّك يا رَيِسْ معكنن عَليـّــــا مْقَطّع لى قلبى مْطَلّع عَنِيّــــة
    سيبونى في حالي وبيا اللّي بِيّـــــــة
    دا كُلّ اللّي ليا مَحَرّم عليـّــــا عَشان حاجَة واحدة عَشــــــانَكْ يا ريس بْحبّــــــــــك يا رَيِسْ
    دي كِلْمَة قالوها زَمان مِن ســـــــــنين وكُلّ اللّى قالها مْطَيَّـْن بِطـيـنْ
    يا سارق فْلوسنا يا كاتِمْ نْفوسنا يا واكل عرقنا برجلك دايْسنا ولِسّـــــه بحبك
    واحب اللّي حبك
    وباحْلْف ها حِبّك
    واحب اللّى جاب
    كَفى يوم اغْبَر عَلينا رَيِسْ
    مبارك يا ريس
    عليــــك البــــلد لابنـــك وابنــــه
    وولد الولد سوزانك سوزانا جمالك جمالنا علائك علائنا وبكرة وبعده وطول الأمد غبــــاءك يا ريس
    ملوش حل خالص وسايق فالهبل
    وكلامك هجايص ولولاك يا ريس
    مكنشى دا حالىوحال كل مصر يمدروخ ولا يـصقال
    وا العيشة حرة وهي العيشة مرة ومش مـــر عاديدا صبرك يا ريس
    ممرر بلادي وأسعار بترفع
    ما تنزلش مرة وباين علينا هنطلع لبرة رغيفك يا ريس
    بيصغر ما يكبرو سعره يا ريس
    بيرفع ما ينزل سألنا دا ماله
    قالو لنا الحديد وإيه العلاقة بسعره الجديد تكونش يا ريس
    لغيت الدقيق
    وبتطحن بداله
    برادة حديد؟مهو أنت اللي عارف
    وسامع وشايف
    جمالك قشــطنا وعز اللي خاننا وولـــع بلدنا برفع الحديد ما تصحى ياريس
    وصحى البلد هنبقى يا ريس كمالة عدد فوسط العوالم
    وشعبى اللي هايم وكبته اللي دايم
    وقرشه اللي عايم هنبقى يا ريس
    كمالة عدد وأقولك وأعيد لك لأني بحبك
    نصيحة فصيحة نصيحة مريحة لبلدي وبلدكما ترحل يا ريس ليه دايما متيس ودايما مهيس
    مترحل بقى .. ! .

    وللحين تعالت في ساحة الميدان أفعال الترحيل مرددة " اِرْحَلْ .. ! اِرْحَلْ .. ! اِرْحَلْ .. !

    وانتهى من الإلقاء، وهم بالنزول، حين اعترضه شاب، عليه ملامح الوقار والهيبة، حاملا آلة العود بين يديه. وتوجه نحو الحضور قائلا:

    أنا الشاعر المغني الشيخ إمام. وأنا جد ممنون اليوم، بلقاء شاعرنا المتواجدة أبياته، في كل الدور العربية. ولقد غنيت هذه التحفة الشعرية لشاعرنا المجيد بعد رحيله عنا، ومفارقته لنا. وأنا اليوم أعيد على مسمعه، بل مسمعكم جميعا، اللحن الذي وضعته لتحفته:

    يا مصر قومي وشدي الحيل

    يا مصر قومي وشدي الحيل
    كل اللي تتمنيه عندي
    لا القهر يطويني ولا الليل
    آمان آمان بيرم أفندي


    ***
    رافعين جباه حرة شريفة
    باسطين أيادي تأدّي الفرض
    ناقصين مؤذن وخليفة
    ونور ما بين السّما والأرض
    يا مصر عودي زي زمان
    ندهة من الجامعة وحلوان
    يا مصر عودي زي زمان
    تعصي العدو وتعاندي
    آمان آمان بيرم أفندي
    ***
    الدم يجري في ماء النيل
    والنيل بيفتح على سجني
    والسجن يطرح غلة وتيل
    نجوع ونتعرى ونبني
    يا مصر لسه عددنا كتير
    لا تجزعي من بأس الغير
    يا مصر ملو قلوبنا الخير
    وحلمنا ورد مندي
    آمان آمان بيرم أفندي
    ***
    يسعد صباحك يا جنينة

    يسعد صباح اللي رواكي
    يا خضرا من زرع إيدينا
    شربت من بحر هواكي
    شربت من كاس محبوبي
    وعشقت نيل أسمر نوبي
    وغسلت فيه بدني وتوبي

    وكتبت إسمه على جلدي
     آمان آمان بيرم أفندي

     

     ثورة السلام في رحاب رسالة الغفران (2)

     

    وما كاد ينتهي من إنشاده، حتى تعالت هتافات الطرب الثورية من كل مكان، واستقبلته حوريات الحدائق، ورفيقه، بباقات من الورد اليمني. وخرجا معا في الإتجاه الخلفي للمنصة، في حين قدم صاعدا لدرج المنصة المصنوع من الأبنوس، شاعر شاب ذا ملامح وضاءة . وتقدم معرفا بنفسه:

    -        أنا الشاعر ماجد كمال. وأنا ممن يدعون بشباب ثورة ال25 يناير. ثورة "شباب الفيس بوك"، كالأخوة، شهيد التعذيب، خالد سعيد، ووائل غنيم، منسق "الفيس بوك"، ومحمد عادل المنظم لثورة الشباب. وأنا القائل" الفيس أصدق أنباء من الكتب". وهذه قصيدتي التي أهديتها لكل الثوار، أعيد إنشادها لكم:

     

                                        يا شباب الفيس

     
    يا شباب "الفيس" اثبتوا السّياده
    لأنّكم جيلنا بأفكار  جديدة

    وإنكم إعصار جارف لا هواده
    وإنكم أبطال للأمة المجيدة


    وإنكم رمز السّماحه والوداده
    وإنكم أهل الرقي تمشون سيده

    وإنكم بالعزم سادات الإرادة
    وإنكم للعز غاية ما يريد ه

    وإنكم أعطيتو للعالم إفاده
    إننا شعب(ن)إراداته عتيده

    وإنكم فيذا الزمن غاية مراده
    وإنكم أحييتم قلوب  بليده

    وإنكم بالزين عود بشتداده
    وإنكم للعز إلهام القصيده

    وأن واحدكم أخذ أحسن شهادة 
    أنتم أنتم للشرف قلبه ووريده

    صوتكم يطرب قلوبن بارتداده
    له جرس يرقص معه قلبي يعيده

    لأن واحدكم صمد حتى الشهاده
    لا رصاص (ن) حي لا مدفع يحيده

    لأن واحدكم وقف كله جلاده
    يالنصر يايفعل الله ما يريد ه

    وانتصرتو وتستحقون الإشاده
    سطّر التاريخ فيكم شي يفيده

    وانتهى من إلقائه، وعاد إلى مجلسه وسط هتافات تهتف بالثورة العربية المجيدة. وقد مال الشيخ علي وهمس في أذني قائلا:"

    -        والله يا أبا اليزيد ! لولا أن هذا الشعر قد ساهم في الإطاحة بالطغاة، لما وقفت للاستماع إليه، فروميات أخي المتنبي، هي عندي أغلى من كل ما سمعت. ولكن لكل عصر رجاله ولغته. وأنتم سكان الفانية، أدرى منا اليوم بشؤون دنياكم.

    وقدم إلى المنصة شاعر جديد، قالت عنه مكبرات الأصوات الطبيعية، بأنه آخر من سيلقي فيما يتعلق بثورة ال25 يناير. وقدم لنا نفسه قائلا:

    -        أنا الشاعر إيهاب عزت، ممن ساهموا في هذه الثورة المجيدة، وهذه قصيدتي: 

    مصر يا حرة....قصيدة لثورة 25 يناير


    مصر يا حرة
    يا صباح الخير بلادي
    في الجبال و كل وادي

    قاهرة و اسكندرية
    و السويس لما تنادي


    مصر يا حرة و أبية
    يا صبية و يا عفية

    جم ولادك دقوا بابك
    جاي يضحي بروح رضية


    كنا بنقول دا الصغير
    لأ دا واعي جاي يغير

    راح على التحرير يقولها
    لأ لظالم لا لمزور
    الشباب الأسمراني
    قال دي أرضي و دا زماني

    جاي أزرع في بلادي
    و اجني زرعي الأخضراني


    المرض جهل و بطالة
    محسوبية و العمالة

    كل دا و الحلم عايش
    و الأماني مش محالة


    قوم يا شعب و صون حقوقك
    صرخة الحرية طوقك

    كمِّل المشوار و واصل
    فِكْرك الواعي شروقك

     
    قولها كلمة و بكرامة
    دم أخوك علِّم علامة

    انتصر له طفِّي ناره
    قول يا ماضي بالسلامة


    اوعى لا يخونك حصانك
    بالأصول حقق قرارك

    الرئيس لو كان هيرحل
    برده حارب يوم وصانك


    الوفاء و العفو شيمتك
    دا أنت مصري من شهامتك

    كلنا بيصيب و يخطأ
    بس مش ترجع لصمتك


    لو ركبت الموجة آسف
    بس كنت جبان و خايف

    بس مصري لي حلمي
    كنت غايب بس شايف

     

    وألقى قصيدته بحماس كبير، ثم غادر المنصة، في حين صعدت إلى المنصة محله، راقصات عربيات، ورحن في رقصة شرقية على إيقاعات لمنوعات ومختارات موسيقية حديثة. وخرجت مغادرا من منصة شباب الثورة، وحين وصلت والشيخ إلى مخرج الدائرة، عبر حديقة تشتعل عبقا بمسك الليل، إذا بشاب وسيم قد بدأ بإنشاد حرّ وسط حلقة، على غرار ظاهرة "الحلاقي" الشعبية المتواجدة ببلاد المغرب. وقد فهمت من أحد الحضور أن، الشاب يدعى مصطفى هاشم، وهو من مجموعة شعراء الثورة.

    قررت أعيش

    قررت أغير بيدي لون شكل السّما

    وأموت هنا

    علشان أعيش
    قررت أحرق نجمها

    واطفي بأيدي شمسها

    وارسم خريطة لأرضها

    وأبدأ أعيش


    قررت أرجع للعروبة عزها

    واكسر حدود الذل واجمع شملها

    من أقصى للأقصى هو حد أرضها

    ونبدأ ... نعيش


    قررت اطوي صفحة سوده عشتها

    وبالأمــل ويا الإرادة

    هعيش في صفحة بحبها


    قررت ارفع صوتي من بعد السكوت

    وأقول يا ظالم أنت ظالم

    حتى لو كان فيها أموت

     
    وإيه يعني أموت

    منا كل يوم عشته في موت

    منا كل مسمع انه في عربي أنقتل

    بسمع وموت


    وإيه يعني أموت

    ما كل ساعة في فلسطين الأبية

    ناس تموت


    وفى كل لحظة تمر وإحنا بدون كرامة

    اسمنا عايشين في موت


    هوا إيه معنى الحياة

    وأنت صوتك جوى منك ينقـتل

    وغصب عنك تلقى نفسك في السكوت


    مهو لجل أعيش عمري بكرامة

    تمن الكرامة دي أني أموت
    متقولشى إني بنتحر وسط الميدان

    دانا بحي حلم لأمتي مات من زمان


    والحلم غالي يا أمي علشان فيه أمل

    تمن الأمل ده يا أمي غالي

    ويمكن أغلى من أني أموت



    مهما أرسلوا دبابات ومدرعات

    ومهما حاولوا يرهبوني بطيارات

    زي الهرم هفضل مكاني ومش هموت


    وإيه يعني أموت

    أنا قولت لأمي مش راح أرجع

    إلا بكرامتي وعزتك

    ولو قلو لك أني موُت

    قولي تحيا بلدي حرة

    حتى لو ولدي يموت


    أصل موتى في النوبادي

    في حياتي وفيه حياتك

    عشان تعيشي يا أمي حرة

    لازم أموت

    لازم أموت

     

    وما إن انتهى أو كاد، حتى جذبني الشيخ قائلا:

    -        بالفعل إنه شعر شعبي، وله منحاه وذوقه الخاص، ونحن من بني الخالدة، قد وهبنا منحة إلهية لفهم كل الألسن بالبشرية دونما حاجة إلى مترجم محلف. بالفعل لكم شعركم ولنا شعرنا. وبهذه المناسبة، تفضل معي لزيارة إحدى منصاتي المفضلة، ألا وهي منصة "المُسَمّطات الذَّهَبِيّة". وشعراؤها هم نخبة ممن صنف، بعض المؤرخين العرب، معلقاتهم، من بين أجمل القصائد التي قيلت في الحكم، وفلسفة الحياة. وهم الآن مقيمين بجنة "الجوهرة"، وقد أتوا خصيصا، للاحتفاء بهذه السهرة المليونية الخالدة.

     

     ثورة السلام في رحاب رسالة الغفران (2)

     

    وسرنا باتجاه المنصة القزحية. وما كدنا نتخذ مكاننا من بين الحضور، حتى اعتلى المنصة رجل ملتحي، عليه حلة تقليدية للعرب القدامى قد راح شعره الكثيف منسدلا على كتفيه، وهو متقلد لسيفه اليماني وقوسه الصفراء. تقدم نحو الأمام وقدم لنا نفسه قائلا:

    -        أنا الشاعر عمرو بن مالك الأزدي من قحطان، الملقب بالشَّنْفَرى، وقد اشتهرت بمعلقتي التي طارت شهرتها في الآفاق باسم "لامية العرب". وأنا بالتحديد أعد من زمرة الصعاليك، وقد تبرأت مني قبيلتي ظلما، فانتقمت لنفسي منها. وما كان يخلصني من الذين كانوا يطاردونني، إلا سرعة الجري، الذي اشتهرت به، ولقد منّ عليّ المولى، وأنصفني من الذين اعتدوا عليّ وسببوا في تشريدي، بالدخول إلى جنة "الجوهرة". وكانت مواقف عطفي على الحيوان، والرأفة بالفقراء والمحتاجين، والوقوف في وجه الظلم، من بعض الأسباب التي ضاعفت من حسناتي للفوز بالعفو الرباني و"لله في خلقه شؤون". وهذه بضعة أبيات من "لاميتي":

                       أَقيموا بني أمّي صُدورَ مَطِيّكُم

                                        فإنّي إلى قَومٍ سِواكُم لأَمْيَلُ

                        فقَد حُمَّتِ الحاجاتُ واللَّيلُ مُقمِرٌ

                                         وشُدّتْ لِطَيّاتي مَطايا وأَرْحُلُ

                         لَعَمْرُكَ ما في الأرْضِ ضيقٌ على امرئٍ

                                         سَرى راغِباً أو راهِباً وهو يَعْقٍلُ

                          ولي دونَكُمْ أَهْلونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ

                                         وأرْقَطُ زُهْلولٍ وعَرْفاءُ جَيْأَلُ

                          هُمُ الرَّهطُ لا مُسْتَوْدَعُ السِّرِّ ذائِعٌ

                                           لَديْهٍمْ ولا الجاني بما جَرَّ يُخْذَلُ

                          وإنْ مُدَّتْ الأيدي إلى الزّادِ لمْ أكُنْ

                                           بِأعْجَلِهِم إذْ أَشْجَعُ القَومِ أعْجَلُ

                            أُديمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُميتُهُ

                                            وأُضْرِبُ عنْهُ الذِّكْرَ صَفْحاً فاَذْهَلُ

                             وأَسْتَفُّ تُرْبَ الأرْضِ كيْ لا يُرى لَهُ

                                              عَلَيَّ منَ الطّوْلِ امْرُؤٌ مُتَطَوّلُ

                              ولولا اجْتِنابُ الذّامِ لمْ يُلْفَ مَشْرَبٌ

                                                يُعاشُ بِهِ إلاّ لَدَيّ ومَأْكَلُ

                               ولكنْ نَفْساً حُرّةً لا تُقيمُ بي

                                               على الضّيْمِ إلاّ رَيْثَما أَتَحَوّلُ

    واكتفى بهذا القدر وولى منصرفا، وشيخ المعرة يهمس في أذني سراّ " والله لو لم يقل سوى هذا البيت الأخير، لكفاه مرتبة الخلود". وقدم زائر جديد إلى المنصة، وما كدت أتبين من الرجل ذا العمامة البيضاء، حتى بادرنا قائلا:

    -        أنا الشاعر والعالم الكيميائي، الحسين بن علي بن عبد الصمد، الطُّغرائي، المولود بإصبهان، ولكن العربيّ العربي. شغلت مناصب عديدة، لدى السلطان ملكشاه وابنيه محمود ومسعود. ومن بين هذه المناصب منصب الأستاذية ومنصب الوزارة. ولقد أشيعت عني تهم الإلحاد زورا وبهتانا، الله سبحانه وتعالى يقول " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم أحد بنبإ فتبينوا ............". ومن مصنفاتي الشهيرة "لامية العجم"، هذه التي سأتحفكم ببعض من أبياتها، ولله الحمد والشكر:

                           أُصالَةُ الرَّأْيِ صانَتْني عن الخَطَلِ

                                             وحِلْيَةُ الفَضْلِ زانَتني لدى العَطَلِ

                           مَجْدي أخيراً ومَجْدي أوّلاً شَرَعٌ

                                             وكالشّمْسِ رَأْدُ الضُّحى في الطَّفَلِ

                            أريدُ بَسْطَةَ كَفٍّ أَسْتَعينُ بها

                                              على قَضاءِ حُقوقٍ للعُلى قِبَلي

                             إِنّ العُلى حَدّثَتني وهيَ صادِقَةٌ

                                               فيما تُحَدّثُ أنّ العِزَّ في النُّقَلِ

                            لَوْ أنّ في شَرفِ المَأْوى بُلوغُ مُنىً

                                             لمْ تَبْرَحِ الشّمسُ يوماً دارَةَ الحَمَلِ

                            ما كُنْتُ أوثِرُ أن يَمْتَدَّ بي زَمَني

                                             حتى أَرى دَوْلَةَ الأوْغادِ والسَّفَلِ

    واكتفى بهذا القدر، وغادر المنصة وقد رافقته سبع حوريات سمراء، أبكارا، عربا، أترتبا، يتقدمنه، وهن ينثرن تُوَيْجات الزهور بمختلف ألوانها وأنواعها، على الحضور. وصعد بعده مباشرة، في حلة يمانية مشجرة، ومتعمما بعمامة عباسية سوداء، وتقدم قائلا:

    -        أنا عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعرّي (ابن الوردي). وأنا من مواليد معرة النعمان. ولقد كنت في الدار الفانية فقيها، وأديبا، وناثرا، وناظما، ولغويا، ونحويا ومؤرخا. ولقد شغلت منصب القضاء بمنبج. ولي مصنفات عدة، أكتفي منها بذكر بضعة أبيات من اللامية التي اقترنت باسمي، "لامية ابن الوردي": 

                            إِعْتَزِلْ ذِكْرَ الأغاني والغَزَلْ

                                             وقُلِ الفَصْلَ وجانِبْ منْ هَزَلْ

                             واتّقِ  اللهَ  فتَقوى  الله  ما

                                              جاوَرَتْ قَلْبَ امرِىٍ إلاّ وَصَلْ

                             حارتِ الأفكارُ في حِكْمَةِ منْ

                                               قد هَدانا سُبْلنا  عَزَّ  وجَلْ

                             كُتِبَ المَوتُ على الخَلْقِ فكَمْ

                                               فَلَّ من جَيْشٍ وأَفنى من دُوَلْ

                               أينَ نُمرودُ وكَنعانُ ومَنْ

                                                مَلَكَ الأرضَ وولّى وعَزَلْ

                                أيْنَ عادُ أينَ فِرْعَونُ ومنْ

                                                 رَفعَ الأهرامَ من يَسْمعْ يَخَلْ

                                أَيْنَ منْ سادوا وشادوا وبَنوا

                                                  هَلَكَ الكُلُّ ولم تُغْنِ القُلَلْ

                                 أينَ أربابُ الحِجى أهلُ النّهى

                                                   أينَ أهلُ العِلْمِ والقَوْمُ الأُوَلْ

                                  سيُعيدُ اللهُ كلاّ منهُمُ

                                                    وسَيَجْزي فاعِلاً ما قد فَعَلْ

                                 إيْ بُنَيَّ اسْمَعْ وصايا جَمَعَتْ

                                                    حِكَماً خُصّتْ بها خَيْرُ المِلَلْ

                                  أُطْلُبِ العِلْمَ ولا تَكْسَلْ فَما

                                                     أَبْعَد الخَيْرَ على أَهلِ الكَسَلْ

                                  واحْتَفِلْ للفِقْهِ في الدّينِ ولا

                                                       تَشْتَغِلْ عَنْهُ بمالٍ وخَوَلْ

                                     واهْجُرِ النّوْمَ وحَصِّلْهُ فمَنْ

                                                        يَعْرِفِ المَطلوبَ يَحْقِرْ ما بَذَلْ

                                     لا تَقُلْ قد ذَهَبَتْ أربابُهُ

                                                      كلُّ مَن سارَ على الدَّربِ وَصَلْ

    واكتفى بهذا القدر الحِكَمي من لاميته، ولم أفطن إلا وشيخ المعرة قد طار إليه وأخذه بالأحضان مسلما عليه. وحين عاد أخبرني بأن الرجل الذي نشأ ببلدته الدنيوية، كان من تلامذته الأوفياء الذين نقلوا عنه جراب علمه. وقدم زائر جديد من أصحاب الإلقاء، في حلة فلسطينية بارزة عليها آثار التقليد التراثي الفلسطيني الذي ما يزال متبعا إلى اليوم. وقد تعمم هو الآخر بكوفية فلسطينية، من فصيلة كوفيات فدائيي القدس. وتقدم قائلا:

    -        أنا خليل بن أبيك بن عبد الله الصَّفَدي الشافعي. ولدت في صفد بفلسطين، المحررة قريبا إن شاء الله، وإليها انتسبت. ولقد شغلت منصب مدير ديوان الإنشاء، في كل من مصر ودمشق. ولي زهاء مائة مؤلف في الأدب والشعر. وسأكتفي ببعض الأبيات من لاميتي الصّفدية:

                          الجَدُّ في الجِّدِّ والحِرْمانُ في الكَسَلِ

                                             فانْصَبْ تُصِبْ عنْ قَريبٍ غايَةَ الأمَلِ

                          واصْبِرْ على كُلِّ ما يَأْتي الزّمانُ بِهِ

                                               صَبْرَ الحُسامِ بِكَفِّ الدّارِعِ البَطَلِ

                           وجانِبِ الحِرْصَ والأطماعَ تَحْظَ بِما

                                            تَرْجو مِنَ العِزِّ والتّأْييدِ في عَجَلِ

                            ولا تَكونَنْ على ما فاتَ في حَزَنٍ

                                             ولا تَظَلَّ بما أُوتيتَ ذا جَذَلِ

                            واسْتَشْعِرِ الحِلْمَ في كُلِّ الأمورِ ولا

                                              تُسْرِعْ بِبادِرَةٍ يوماً إلى رَجُلِ

                             إنّ الفَتى مَنْ بماضي الحَزْمِ مُتّصِفٌ

                                              وما تَعَوّدَ نَقْصَ القَوْلِ والعَمَلِ

                              ولا يُقيمُ بِأرضٍ طابَ مَسْكَنُها

                                              حتّى يُقِدَّ أديمَ السَّهْلِ والجَبَلِ

                               فَمَنْ تَكُنْ حُلَلُ التّقوى مَلابِسَهُ

                                               لَمْ يَخْشَ من دَهْرِهِ يوماً منَ العَطَلِ

                                مَن لَمْ يَصُنْ عِرْضَهُ ممّا يُدَنّسُهُ

                                                عارِ وإنْ كانَ مَغْمورا منَ الحُلَلِ

                                منْ ضَيّعَ الحَزْمَ لمْ يَظْفَرْ بْحاجَتِهِ

                                                ومنْ رَمى بِسِهامِ العُجْبِ لمْ يَنَلِ

                                 منْ رامَ نَيْلَ العُلى بالمالِ يَجْمَعُهُ

                                                 منْ غَيْرِ جودٍ بُلِيَ من جَهْلِهِ وبُلي

                                  منْ جادَ سادَ وأحْيا العالِمونَ لَهُ

                                                 بديعَ حَمْدٍ بِمَدْحِ الفِعْلِ مُتّصِلِ

    واكتفى بهذا القدر، وتراجع إلى الوراء مسلما، فيما تناهى إلينا صوتا من المكبرات الصوتية الإعجازية، منبها الحضور بفترة استراحة لتناول ما طاب لهم، من الفواكه والمشروبات والحلوى. وانتشر بالمناسبة متموجا في كل الأرجاء، صوت فيروز الساحر وهي تغني "سنرجع يوما يا قدس فلا تحزني". ودخلت في الاستراحة، وأنا حال كوني، سابح كملاح فضائي في الآفاق المسترسلة، وخارج عن كل قيد زمني دنيوي. وتناولت والشيخ بضعة قطع من الكعكة الفردوسية، وخضنا في بعض المسائل اللغوية، وبينما نحن كذلك، إذا بأبي الطيب المتنبي يظهر أمامنا قائلا، وكأنه خرج من لا شيء:

    -        لقد التحقت بكم خصيصا للاستماع إلى الشاعر المقبل.

    وفي هذه اللحظة بالذات، صعد إلى المنصة رجل عليه لباس أهل فارس الفاخرة، ومتعمما بعمامة أرجوانية، وتقدم قائلا:

    -        أنا علي بن الحسين بن يوسف بن محمد بن عبد العزيز البُسْتي الشافعي. ولقد ولدت في "بُسْت" قرب سجتان، وإليها نسبتي. ولقد كنت من كتاب الدولة السّامانيّة في خراسان، في عهد السلطان محمود بن سبكتكين. ولقد ذاعت رسائلي الأدبية في تلك الفترة. ولي عدة أعمال شعرية مطبوعة، إلا أنني سأكتفي، بإلقاء بضعة أبيات من هذه المطولة، التي ألحقتني بزمرة أهل "الجوهرة":

                     زِيادَةُ المَرْءِ في دُنْياهُ نُقْصانُ

                                     ورِبْحُهُ غَيْرُ مَحْضِ الخَيْرِ خُسْرانُ

                     يا ظالِماً فَرِحاً بالعِزِّ ساعَدَهُ

                                     إنْ كُنْتَ في سِنَةٍ فالدَّهْرُ يَقْظانُ

                      ما اسْتَمْرَأَ الظُّلْمَ لوْ أَنْصَفْتَ آكِلُهُ

                                     وهلْ يَلَذُّ مذاقُ المَرْءِ خَطْبانُ

                      يا أيُّها العالِمُ المُرضي بِسيرَتِهِ

                                    أَبْشِرْ فأنْتَ بِغَيْرِ الماءِ رَيّانُ

                       ويا أخا الجَهْلِ لوْ أَصْبَحْتَ في لُجَجٍ

                                   فأَنْتَ ما بينَها لا شَكَّ ظَمْآنُ

                      صُنْ حُرَّ وَجْهِكَ لا تَهْتِكْ غِلالَتَهُ

                                  فكُلُّ حُرٍّ  لِحُرِّ  الوَجْهِ  صَوّانُ

                      من اسْتعانَ بِغَيْرِ اللهِ في طَلَبٍ

                                 فإنَّ  ناصِرَهُ  عَجْزٌ  وخِذْلانُ

                      فاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً

                                  فإنّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أرْكانُ

                       لا ظِلَّ للمَرءِ يُغْني عَن تُقىً ورِضَا

                                 وإنْ  أظَلّتْهُ  أوراقٌ  وأَفنانُ

    واكتفى بهذا القدر، وغادر المنصة في موجة من الهتافات بالسلام. وبدوري غادرت المنصة رفقة شيخ المعرة، وفارس سيف الدولة. ومشينا نتفرج على بدع فردوسية، لا تعد ولا تحصى. وكانت إحداها التي فتنت خيالي، حين ظهرت في الفضاء شاشات تلفازات سماوية، وقد بدأت تنقل ما هو قادم في المستقبل القريب، من مجريات الأحداث في البلدان العربية. وحين سألت شيخ المعرة، مستبشرا بهذه الأحداث السعيدة، أجابني قائلا:

    -        إننا لا نخشى عليك، من نقل ما شاهدته من أحداث لأبناء الفانية، قبل الأوان، لأن ذاكرتك الفردوسية هذه، ستستبدل بذاكرتك البشرية، بمجرد ما تدخل في الطبقة الأرضية. ولن تعد تحتفظ إلا بصور رؤيوية، لا رابط فردوسي بينها. والآن هيا بنا لزيارة نافورة الخلد.

    وسرنا وقد انبعثت على صراطنا برك وبحيرات تتلون بآلاف من الألوان المائية. وبينما نحن سائرين بخيلاء فردوسي إذا بالملاك " البرقي" يعترض سبيلنا قائلا:

    -        لقد حان وقت رجوعك إلى المعمورة السفلى.

    وودعت شيخ المعرة، شاكرا له هذه الدعوة المباركة، وكذلك صاحبه المتنبي، الذي أبى إلاّ أن يودعني متمثلا ببعض أبياته:

                           لا افْتِخارٌ إلاّ لِمَنْ لا يُضامُ

                                         مُدْرِكٍ أو مُحارِبٍ لا يَنامُ

                           لَيْسَ عَزْماً ما مَرّض المَرْءُ فيهِ

                                     لَيْسَ هَمّا ما عاقَ عَنْهُ الظلامُ

                         واحْتِمالُ الأذى ورُؤْيَةُ جانيهِ

                                     غِذاءٌ تَضوى بِهِ الأجْسامُ

                         ذَلَّ منْ يَغْبِطُ الذَّليلَ بِعَيْشٍ

                                    رُبَّ عَيْشٍ أَخَفُّ مِنْهُ الحِمامُ

                         كُلُّ حِلْمٍ  أتى  بِغَيْرِ  اقْتِدارٍ

                                     حُجَّةٌ  لاجئٌ إِلَيْها  اللِّئامُ

                         مَنْ يَهُنِ يَسْهُلِ الهَوانُ عَلَيْهِ

                                     ما  لِجُرْحٍ  بِمَيِّتٍ  إيلامُ

    "وبارك لكم الله في ثوراتكم العاجلة والآجلة إن شاء الله". وفجأة تجلى نجم كبير فوق رؤوسنا، وقبل أن يودعني، أضاف قائلا:

    -        إنها روح المغفور له نجم الدين أربكان، قد قدمت إلى مأواها الخالد، الذي وعدت به. أجل روح المؤمن المجاهد، الذي أحيا هلال الإسلام بتركيا الكمالية، من بعد ما ظن علمانيّيها، بأن هذا الدين المحفوظ، قد قضي عليه إلى الأبد.

     وتبخر هو الآخر صحبة الشيخ، ووجدت نفسي على متن مركبة فضائية لم يسبق لي أن رأيت مثلها من قبل. وقال لي الملاك "نوران " وقد استبدل بزته المزركشة الشّعشعانية ببزة ضوئية فسفورية، بعد ثانية أو اثنتين ... وما كاد يتم كلمته حتى وجدت نفسي من جديد، على رصيف المحطة، في انتظار القطار الذي قدم أخيرا، وقد بدأت قطرات المطر الشتائية، تتساقط على الرصيف، محدثة موسيقى شتوية كئيبة. وعند مدخل المحطة الرئيسي، توقف بعض المسافرين، أمام الشاشة العريضة، يتطلعون إلى البث الحيّ، الذي كان ينقل مباشرة، كتائب القذافي ومرتزقته، وهي تدمر بالمدفعية الثقيلة والطيران الحربي، مدنا أبت إلا أن تثور في وجه الطاغية، وتضحي بأرواحها الغالية، من أجل الكرامة والحرية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، والنصر للثوار والمجد للشهداء.  

    -        انتهت –

     

                بقلم فؤاد اليزيد السني 28-03-2012 بروكسيل بلجيكا

     

     

    أعلى الصفحة

     
    sounnif@gmail.com
    Previous Tab                     للمشاركة إضغط هنا                      Next Tab
     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     لانا راتب المجالي

    بروكسيل الأدبية ترحب بكل إبداعاتكم

    bruxellesaladabiya@gmail.com

    Partager via Gmail

    تعليقك
  • بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
    Website counter 

     

    ثورة الياسمين في رحاب رسالة الغفران

     

     

    فؤاد اليزيد السني
    مقالات الكاتب

     

     

     

     

     

    قائمة المواضيع

      قصة قصيرة
       قصة ثصيرة جدا
         شعر 
         زجل 
     نزهات شاعرية  
        فلسفة و علوم
     
       مسرح 
      معرض 
      محاولات شابة
     من وحي الثرات
      سينما
     عالم الحكاية

     مواقف سياسية
     نقد أدبي 
     الصالون الأدبي
      من الأدب العالمي
     مقالات و دراسات إبداعية 
      

     

      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

                           

                               ثورة الياسمين في رحاب رسالة الغفران

                                         ثورة 14 يناير المجيدة

                 ثورة الياسمين في رحاب رسالة الغفران

         بينما كنت غافلا عن ذكر الله، منغمسا في شبهات الدنيا وملذاتها، ومستسلما كعبد عربي لطغاتها ومفاتنها، إذا بملاك "البرقيات السماوية اللاسلكية" يقف بعجلة لا معهودة على رأسي قائلا:

    -        استعد للسفر البُراقي يا أبا اليزيد !

    ولم أحر جوابا لأول وهلة، لأني كنت متوهما نفسي غارقا في حلم عميق. وإذا بالملاك يجذبني جذبة شديدة، خلت فيها بأن روحي، على وشك أن تزهق من جسدي، وهو يردد قائلا:

    -        تهيأ قلت لك للسفر الرباني ! لأننا في بضعة ثواني سنكون هنالك.

    وما هي إلا لمحة عين، وإذا بي في عالم عجيب، لا عهد لي ولا لخيالي به من قبل. انتبهت لنفسي وقد حط بي الملاك المجنح، على مدخل بوابة جوهرية، علقت على واجهة مدخلها لوحة فضية، نقشت عليها بأحرف من ذهب، عبارة " جنة الرحمة". وإذا بشيخ وقور تحيط به هالة ضوئية، وتعلو قسماته مسحة إشعاع رباني، والنور يسعى بين يديه، وكأنه موقد من شجرة لا شرقية ولا غربية، واقف في انتظاري. حينها، استدار فيّ الملاك البراقي قائلا:

    -        هو ذا شيخ المعرة في انتظارك عند مدخل جنة الرحمة ! واختفى متبخرا في رمشة عين، مخلفا بعد اختفائه شرارات ونجوم برقية هنا وهناك.

    وبقيت في حيرة من أمري، حين خرج الشيخ الوقور فجأة من حالته التأملية، وتقدم باتجاهي ماشيا، ثم سلم علي قائلا:

    -        أنا من بعث في استحضارك عندنا.

    -        شيخ المعرة ! قلت مستغربا، وأنا غير مصدق.

    -        نعم شيخ المعرة نفسه، أبو العلاء المعري، ذاك الذي كان دميم الخلقة، قصير القامة، نحيف الجسم، ضعيفه، ومشوه الوجه بآثار الجدري والعمى. هو ذا نفسه، الذي يقف أمامك الآن مبصرا. والذي بعث في طلبك، ليطلعك على تتمة "رسالة الغفران"، وليكشف لك عن أسرار مدهشة، كان يجهلها بنفسه، في دار الفناء. وهذه الهيأة التي ترى الشيخ عليها، ليست سوى محض تصور ذهني. لأننا نحن مخلوقات الجنة الأبدية، لسنا محكومين بأجسادنا ومتطلباتها، لأن الأجساد عندنا، ليست سوى محض خدعة بصرية. إننا في الواقع نعيش بحقيقة جوهر أرواحنا الخالدة. والمخلوق منا نحن سكان الدار الباقية، إذا ما تصور ذهنيا أي شيء، أصبح حقيقة بصرية ومادية ملموسة لديه. فأنا على سبيل المثال، إذا خطر بتصوري الذهني، أن أظهر في حالة شاب في مقتبل العمر، حصل لي ذاك التصور مباشرة. وقس هذا التصور الذهني على كل ما بإمكانه أن يخطر بالبال.

    "سبحان الذي لا يموت ! " قلت في نفسي، وأنا كلي حيرة من هذه الرحلة الإعجازية، ومن هذه القدرة التصورية الذهنية الخارقة، ومن هذا الاختيار الذي وقع علي، أنا بالذات بخلاف سائر البشر. والسبب الخفي من وراء هذه الدعوة الفردوسية. وكمن يقرأ في نفسي ككتاب مفتوح، ابتسم الشيخ الوقور وقال لي مستدركا:

    -        ألإختيار يا أبا اليزيد، قد كان من باب الصدفة المحضة لا غير. لقد طلبنا، وأقصد أنا وشقيقي المتنبي وزمرة من شعراء الحماسة، من ملاك "خزينة التراث"، أن يأتينا بآخر مخلوق دنيوي، قرأ "رسالة الغفران"، فكنت أنت.

    قاطعته وأنا ممتلئ بالاندهاش والحيرة:

    -        بالفعل، لقد كنت بصدد قراءة آخر صفحة من رسالتك للشيخ ابن القارح، حين فاجأني "الملاك البرقي" ومضى بي بسرعة تسبق سرعة الضوء، على متن آلته البراقية العجيبة، مسافرا بي إلى هنا. 

    ولكن الشيخ بوقاره المعهود، لم يقاطعني كما قاطعته، بل تركني لغاية ما أتممت كلامي، ثم دعاني بعدئذ، بأدب لا يليق إلا بسكان جنة الرحمة، إلى الدخول معه لروضة السكينة. واتخذ كل منا مقعده أمام الآخر، ثم نزلت الطلبات الشهوانية المتصورة في نفوسنا، من حليب، وعصير كوثر، ونبيذ، وحلوى مختلفة المذاق، والألوان، من تلقاء نفسها أمامنا، وأنا لا أزداد إلا دهشة، لولا أن استدركني الشيخ الوقور:

    -        كما علمت يا زائري الكريم، لقد كان الاختيار، مجرد مصادفة دنيوية، أما فيما يتعلق بالرسالة السرية المتعلقة بهذا الاستدعاء الفجائي، فإنها ذات أهمية قصوى بالنسبة لنا سكان "جنة الرحمة". وكل هذا قد ابتدأ بقدوم المغفور له، محمد البوعزيزي عندنا في الأسبوع المنصرم، وب"ثورة الياسمين" التي وصلتنا بعده ...

    وتغرغرت عيون الشيخ بالدموع، وقد سرح بعيونه في أطراف الكون اللاّ متناهية، والسكينة المطلقة قد خيمت علينا برحمة إلهية لا مثيل لها، فاغتنمت الفرصة مواسيا له:

    -        أو تبكي يا شيخي الجليل؟

    -        كلا إنه مجرد تصور ذهني، إنها دموع الفرح، بل دموع الرحمة. تصور بأني فارقت الدار الفانية، وأنا في شدة اليأس والعزلة والقنوط من رحمة الله، من بني جنسي. أو ما سمعت قولي؟:

                             تَعَبٌ كُلّها الحَياةُ فما أَعْجَ     

                                           بُ إلاّ مِنْ راغِبٍ في ازْدِيادِ

    وقولي أيضا متضجرا من البشر:

                                قد فاضَت الدُّنْيا بأدناسِها     

                                                على بَراياها وأجْناسِها

                                وكلُّ حَيٍّ  بها  ظالِمٌ            

                                           وما بها أظْلَمُ من ناسِها

    وبالرغم من  كل ذاك التشاؤم الدنيوي الذي كان يطغى علي، فأنا كنت من الموحدين، وهذا قولي يشهد علي:

                                  أَثْبَتُّ لي خالِقا حكيما        

                                               ولَسْتُ من مَعْشَرِ نُفاةِ

    قلت وبفضل هذه الخصلة التوحيدية، شفع فيّ نبينا وأدخلني المولى إلى هذه الجنة الفريدة، التي اختصها برحمته، لكل من فارق الدار الفانية يائسا، وفي قلبه ذرة من التوحيد.

    -        و الشهيد محمد البوعزيزي كيف دخل على جنتكم هذه؟

    وعدل الشيخ الوقور من جلسته، وقد كان قد بدأ بالانزلاق في يومياته الدنيوية المنصرمة، ورجع عائدا من شروده، وهو كله اطمئنانا بحياته الفردوسية الخالدة، واستدرك قائلا:

    -        قلت لك يا أبا اليزيد، بأني قد خرجت من الدار الفانية، وأنا كلي تذمر من العروبة، ولم يحصل لي معاصرة تلك الثورة العربية، التي كنا ننتظرها في زمننا ونترقب حصولها، مثلنا مثل أولائك الذين كانوا يحلمون بها من قبلنا. تصور يا أبا اليزيد حظكم بها ومنها، بعد أكثر من ألف سنة من الانتظار. نعم إنها أول ثورة في وجه الطغاة، شعبها شعب عربي مسلم، ثورة تكتب بدم إرادة شعب بأكمله. تكتب يا عزيزي، ليس للعرب وحدهم، بل للإنسانية جمعاء.

    واستغربت بهذا الاهتمام، الذي ما زال يوليه الشيخ الجليل لهذه الإنسانية، التي كان متضايقا منها لما كان، وقد أصبح ولا خوف عليه من سكان الدار الخالدة، ومع ذلك ما زال اهتمامه التصوري الذهني، عالقا بأخبارها. فسألته مستوضحا عن هذا الحبور بحدث دنيوي عابر:

    -        وما شأنكم أنتم يا شيخي الجليل بهذا الحدث؟

    فأجابني ودموع الفرح، ما تزال تقاطر على لحيته الغراء مثل حبات جواهر:

    -        لقد نلتم حظكم منها كما نلنا نحن حظنا أيضا.

    -        وكيف ذاك؟

    -        بمعاصرتكم الدنيوية لها من جهة، وبدخول الشهيد محمد البوعزيزي إلى جنتنا الرحيمة من جهة أخرى.

    -        أولم يحرق البوعزيزي نفسه، فيحق عليه غضب الله الذي حرم علينا هذا؟

    واستوى الشيخ الجليل في جلسته، وعدل من هيأته ومن بردته اليمانية السوداء، المسبوكة بخيوط ذهبية، ثم توجه إلي بالكلام من جديد:

    -         ولله في خلقه شؤون، أو لم تطلع على رسالتي، أو لم تر كم من بئيس وجاهلي دخل الجنة بسبب فضلة خير أو ذرة إيمان أو كلمة حق؟

    -        بلى أجبته.

    -        فكذلك حال البوعزيزي، قال لي. فهذا الشاب البريء بسبب فساد مؤسسات الدولة، واستبداد الطغاة، قام بسبب حالة يأس نفسي بما ينهى عنه الشرع، وهو لا يدري بأنه يقدم لشعبه رسالة الحرية، لتحريره من نير العبودية والاسترقاق. ولقد تلقى الشعب التونسي البطل، مضمون الرسالة، وفهم معناها المجازي، ومن لحظتها اعتبر كل مواطن تونسي نفسه، مسئولا عن مأساة البوعزيزي الذي أصبح بهذه المناسبة، شهيدا للحرية الجماهيرية الآنية، والقادمة وعودها في جميع الأقطار المستبدة، بدون استثناء، إن شاء الله. وأصبح بالمناسبة ممن تحولت تضحيتهم، رمزا لثورة المستضعفين والمعذبين في الأرض.

    فأجبته وقد اطمأنت نفسي:  

    -        الآن أدركت لغز "ثورة الياسمين"، التي فجرها البطل الشهيد  البوعزيزي.

    وفي هذه اللحظة اخترقت آفاق "جنة الرحمة" تكبيرة آذان فريدة من نوعها، أثارت انتباهي أنا بالخصوص، أنا الزائر الغريب لهذه الديار الفردوسية، فسألت الشيخ الجليل عنها:

    -        ما هذا الآذان يا سيدي الشيخ؟

    فأجابني وابتسامة الفخر العربية قد ارتسمت بريقا في عينيه:

    -        إنها تكبيرة النصر للثورة التونسية. فكلما سقط طاغية في بلد ما من دار الفناء، كبر عندنا ملاك الكرامة والحرية، على مئذنة السلام. وتصور، بأن ما يخص شعوبنا العربية، فهذه أول تكبيرة منذ زمن سحيق.

    وهب الشيخ الجليل من مقعده واستدعاني لزيارة قصر الحماسة، حيث تنتظرنا بعض الشخصيات الأدبية، للاحتفاء بهذه الثورة العربية الجليلة.

    ومشينا بين صفوف أشجار كرز مزهرة، وحدائق من شتى أنواع الورود الناضرة، التي لم أر من قبل قط، مثيلا لها،  أو شبها، في دنيا بني آدم. وحين وصلنا إلى ضفة نهر قزح، خطر ببالي المشي على ماء النهر، وإذا بي وشيخ المعرة الجليل، نتمشى كلانا بمرح وخيلاء على الماء، لغاية ما عبرنا للضفة المقابلة. ثم دخلنا في ممر تشع تربته من بريق الجوهر الخالص، في اتجاه قصر الحماسة. وفي هذه اللحظة، طلعت علينا من الاتجاه المقابل، كوكبة من حور العين، يرفلن في قفاطينهن الحريرية والمخملية المجوهرة، كشموس مجرية تسبح نورا في آفاق اللانهاية. وعبرن على مقربة منا، وهن يزغردن تارة، وطورا ينشدن بإيقاع غنائي جماعي، مطلع قصيدة أبو القاسم الشابي:

                           إذا الشَّعْبُ يَوْمًا أَرادَ الحَياة   

                                            فَلا بُدّ أنْ يَسْتَجيبَ القَدَر

                           ولا بُدّ لِلّيلِ  أَن  يَنْجَلي         

                                            ولا بُدّ لِلْقَيْدِ أنْ يَنْكَسِر

    فالتفت إلى الشيخ الجليل، وبي رغبة ملحة في استطلاعه عن هذا الموكب الحوري، وقبل أن أسأله بادرني مجيبا:

    -        أتصور بأنك تتحرق شوقا لمعرفة مغزى هذا الاحتفال؟ نعم إنهن يحتفلن بعرس الثورة التونسية، هذا الذي سيصبح عندنا، وأقصد في تصورنا الذهني، عيدا سنويا من أعياد جنتنا الخالدة. وهن، بالمناسبة، يفخرن بشقيقاتهن من النساء والبنات التونسيات، اللائي أصبحن رمزا ومفخرة للمرأة الحرة.

    إلى هنا لم أعد قادرا على حبس نفسي عن الكلام، فبادرته قائلا:

    -        والله إن هذا المظهر الفردوسي، لا يزيدني إلا افتخارا واعتزازا، فيما حققناه في دارنا الفانية من عطاء للإنسانية، بثورتنا العربية التونسية الخالدة.

    -        وأجابني الشيخ الجليل:

    -        بل حتى نحن سكان هذه الدار الباقية، نعيش بتصورنا الذهني، هذا الحدث الدنيوي التاريخي، كعرس لم يعرفه العرب من قبل قط، إلا بحدث عبقرية الإسلام. والآن تقدم لأقدمك لضيوفنا.

    ودخلنا إلى قصر بديع، تكاد تكون هندسته ونقوشه المعمارية والفنية صورة طبقا لأصل الصنعة الإسلامية الأندلسية، واعتقدت بأن هذه المشاهدة هي من وحي تصوري الذهني الخالص، الذي ما زال عالقا بذكرياتي المتعلقة بالدار الفانية. وحين عبرنا نحو الفناء المؤدي مباشرة إلى أسطوانة المضافة، فوجئت وأنا أتطلع بنظري نحو السماء، حيث كان ثمة تسبيحا توحيديا ملائكيا، بأن السقف كان سماوي الصنع، تناثر فيه الملايين من النجوم المتلألئة، على شاكلة قناديل عربية ألف ليلية. وبعد تحية السلام المعهودة عند جميع قطان الجنات الإلهية، قادني الشيخ الجليل نحو السرر الموضونة، والبسط المزدانة بالوسائد والطنافيس النفيسة. واتخذنا مقعدنا، "متكئين عليها متقابلين"، في شكل حلقة دائرية، من بين الضيوف المؤلف جمعهم، من حور عين، ورجال يتلونون في ثيابهم الفاخرة، كما تلون في أثوابها الغول. وقد راح الولدان المخلدون يطوفون علينا "بأكواب وأباريق وكأس من معين". وحين خيمت السكينة الرحمانية على الحضور، قام من بين الضيوف رجل طويل القامة، عريض المنكبين، ذا لحية شديدة السواد، وقد تعمم بقلنسوة خضراء، وهو يرفل في تلك البردة، التي كان قد وهبها نبينا محمد صلوات الله عليه، للشاعر كعب بن الزهير، وتقدم نحو وسط الدائرة، وتوجه إلينا قائلا:

    -        أنا الشاعر أبو الغول الطَّهَوي، من قبيلة بني طَهِيّة، وقد أخبر عني ابن النديم في كتابه "المختلف المؤتلف"، بأنه لا يعرف عن أصلي كثيرا، ولا يعرف لأي عصر أنتمي. فأنا إذن قد خرجت من الدار الفانية مجهول الهوية. على كل حال إنني هنا من خواليد "جنة العرفان". وهي كما تعرفون، جنة أنعم بها المولى برحمته، التي لا تفوقها رحمة، على كل الذين قدموا إلى هنا بلا هوية. وبسبب شعري الحماسي، بعثني سكان جنتي لأحتفي معكم هذه الليلة، بثورتنا التونسية العزيزة، بهذه الأبيات:

                        فَدَتْ نَفْسي وما مَلَكَتْ يَميني      

                                           فَوارِسَ صَدَّقْتُ فيهِم ظُنوني

                       فَوارِسُ   لا   يَمَلّونَ  المَنايا       

                                          إذا دارَتْ رحى الحَرْبِ الزّبونِ

                      ولا تَبْلى بَسالَتُهُم وإنْ هُمُ        

                                         صَلوا بِالحَرْبِ حينًا بَعدَ حينِ

    وحين انتهى من الإنشاد عاد إلى مجلسه، وقد لحقت بوسط الحلقة حورية ترفل في هالة من الجمال. وتقدمت قائلة:

    أنا الشاعرة الكنانية، جمعة بنت الخُسّ، وكان عرب الجاهلية يلقبونني بالحكيمة، وبهذا الفضل تداركني المولى برحمته، وأدخلني إلى جنة الحكماء، ومنها أتيت محملة بهذه الأبيات، التي سألقيها بين أيديكم، تحية من إخواننا المنعمين بالدوام، للشعب التونسي الخالد:

                    أَشَدُّ وُجوهِ القَوْلِ عند ذوي الحِجى    

                                       مقالةُ ذي لُبٍّ يقول ُ فَيوجِزُ

                     وأفْضلُ غُنُم يُستفاد ويُبتغى           

                                       ذَخيرةُ عقلٍ يَحتويها ويُحْرِزُ

                     وخيرُ خلالِ المَرْء صِدْقُ لِسانِه         

                                       وللصّدقِ فَضْلٌ يَستَبينُ ويَصْدُقُ

                     وإنجازُكَ المَوْعودَ مِن سَببِ الغِنى  

                                       فَكُن موفِيا بِالوَعْدِ تُعطي وتُنجِزُ

                     ولا خَيْرَ في حُرٍّ يُريكَ بَشاشَةً          

                                       ويَطْعَنُ مِن خَلْفٍ عَلَيْكَ ويَلْمِزُ

                      إذا المَرْءُ لم يَسْطَع سِياسَةَ نَفْسِه  

                                       فإنّ بِه عَن غَيْرِها هُو أَعْجَزُ

    وانتهت من الإلقاء وعادت لمجلسها في جو من الزغاريد والتهليل الشاعري، وقد هب قادما من عن يمين الدائرة مدعو آخر. وحين صار  في نقطة الدائرة، توجه إلينا قائلا:

    -        أنا جعفر بن عبلة الحارثي، شاعر من المخضرمين، وأقصد الدولتين: الأموية والعباسية. ولقد جئتكم زائرا، من جنة تواجد على مسافة خمس مئة سنة ضوئية، من جنتكم هذه. وجنتنا تدعى ب"جنة الشهداء"، لأن المولى قد خصصها للذين ماتوا شهداء في الدفاع عن أمانة رسالة قيمهم الإسلامية الخالدة. وحضوري بينكم اليوم، هو تضامننا نحن الشهداء، مع ثورة الياسمين. وأنا القائل:

                          لا يَكْشِفُ الغَمّاءَ إلاّ ابنَ حُرّةٍ           

                                            يَرى غَمَراتِ المَوْتِ ثُم يَزورُها

                          نُقاسِمُهم أسْيافُنا شَرَّ قِسْمَةٍ        

                                           فَفينا غَواشيها وفيهمُ صُدورُها

    واكتفى بهذا القول وعاد على مجلسه، في حين برزت قادمة من على يمينه حورية زرقاء العيون، تخطر في حلل عربية. والشذى يتضوع منها قارسا على القلوب. وخلتها في بداية الأمر زرقاء اليمامة، حتى نطقت قائلة:

    -        أنا الأخرى شاعرة جاهلية، واسمي عُفَيرة بنتُ غَفّار الجَديسيّةُ. وأنا قدمت متضامنة مع شهداء الياسمين،  من "جنة المستدرك". أي ممثلة لهؤلاء الذين تداركتهم رحمت الله وانتشلتهم من مهاوي الهاوية. وهذه الجنة، قد خصها الرحمان برحمته، لمن مات مغتالا أو مغتصبا، من قبل الحكام المجرمين وكلابهم البوليسية. وأنا القائلة:

                         أَيَصْلُحُ ما يُؤتى إلى فَتياتِكُم        

                                       وأنتُم رجالٌ فيكُمُ عَددُ النّملِ

                        وتُصْبِحُ تمشي في الدّماءِ عُفَيْرَةٌ      

                                        عَشِيّةَ زُفّتْ في الدّماءِ إلى بَعْلِ

                         فإنْ أنتُم لم تَغْضبوا بعدَ هذِه        

                                       فكونوا نِساءً لا تُعابُ منَ الكُحْلِ

                         ودونَكُم طيبُ العَروسِ فإنّما          

                                     خُلِقْتُم لأَثْوابِ العَروسِ ولِلْغَسْلِ

                         فَلَو  أَنّنا  كُنّا رِجالاً  وأنْتُمُ               

                                      نساءً لكنّا لا نُقيم على الذُّلِّ

                        فبُعداً وسُحْقاً للّذي لَيْسَ دافِعًا       

                                     ويَخْتالُ يَمْشي بَيْننا مِشْيَةَ الفَحْلِ

                        فموتوا كِراماً أو أميتوا عَدُوّكُم           

                                    ودُبّوا لِنارٍ الحَرْبِ بالحَطَبِ الجَزْلِ

    وما كادت تنهي من إلقائها، حتى طارت حمامات سلام بيضاء، ترفرف مُحوِّمَة على رؤوس الضيوف، وقد خلتها من تصوري الذهني الخالص، أنا الذي ما يزال يحلم بسلام عام وشامل لسكان معمورتنا الفانية. وقدم منشد آخر، وتوسط الحلبة قائلا:

    أنا شاعر إسلامي، وقد أدركت العصر الأموي، حيث اعتدي علي من قبل الحجاج وأحرقت داري. ولكني بسبب الإيمان العميق الذي كان يسكنني، كما يسكن الشعب التونسي اليوم، قمت مدافعا عن حقوقي غير هياب ولا متخوف من السلطة الجائرة. وأنا الآخر قد قدمت من جنة الشهداء، وأنا القائل:

                          سَأغْسِلُ عنّي العارَ جالباً

                                        عليَّ قَضاءَ اللهِ ما كانَ جالِبا

                          وأذْهَلُ عنْ داري وأجعلُ هَدْمَها

                                       لِعِرْضي من باقي المَذَمّةِ حاجِباً

                          ويَصْغُرُ في عَيْني تَلادي إذا انْثَنَتْ

                                      يَميني بِإدراكِ الذي كُنْتُ طالباً

                         فإنْ تَهدِموا بالغَدْرِ داري فإنّها

                                      تُراثُ كريمٍ لا يبالي العَواقِبا

                         إذا الهمّ لم تُرْتَدَعْ عزيمَة هَمّهِ

                                   ولم يَأتِ ما يَأْتي من الأمْرِ هائباً

    وصفق جميع الحضور لهذا الإنشاد الرائع. وعاد شاعرنا إلى مجلسه، وقامت كشمس خارجة من نور مجراها، حورية أخرى، وقد تحجبت على غرار المرأة المسلمة، واتخذت موقعها من وسط الحلقة قائلة:

    أنا شاعرة جاهلية، واسمي الفارعَةُ بنتُ شدّاد. ولقد قدمت من "جنة المراثي". ونحن من شفع فينا المولى بسبب حزننا الشديد ورثائنا المؤثر، في تمجيد أبطالنا الذين ماتوا وهم يدافعون عن قضايا عادلة. وبالفعل جئت أنا أيضا، احتفاءً بعرس الياسمين، وأنا القائلة:

                  يا مَنْ رَأى بارِقاً بِتُّ أَرْمُقٌهُ  

                               جَوْداً على الحَرّةِ السّوداءِ بالوادي

                  أسْقي به قَبْرَ من أعْني وحُبَّ بِهِ

                               قَبْراً إليَّ ولو لم يَفْدِهِ فادي

                  شَهّادُ أندِيَةٍ رَفّاعُ أَبْنِيَةٍ 

                               شَدّادُ أَلْوِيَةٍ فتّاحُ أسْدادِ

                  نَحّارُ راغِيَةِ قتّالُ طاغِيَةٍ 

                                  حَلاّلُ رابِيَةٍ فَكّاكُ أقْيادِ

                    قوّالُ مُحْكَمَةٍ نَقّاضُ مُبْرَمَةٍ

                                 فراّجُ مُبْهَمَةٍ حبّاسُ أورادِ

                    حَلاّلُ مُمْرِعَةٍ حمّالُ مُضْلِعَةٍ 

                                قَرّاعُ مُفْظِعَةٍ طَلاّعُ أنْجادِ

    وفرغت من إنشادها، وقد بدت علامات الافتخار على محياها، وقابلها الحضور بحفاوة كبيرة وعادت إلى مجلسها الملائكي. وأتى قادما في لباس عسكري إسلامي زائر آخر، تخيلته في بداية الأمر سيف الإسلام، خالد بن الوليد، لما كان يبدو عليه من الوقار والشدة وعزة النفس. وحين اتخذ مكانه من وسط حلقتنا، قدم لنا نفسه قائلا:

    أنا شاعر إسلامي، واسمي موسى بن جابر. ولقد عشت حياتي دفاعا عن الحقيقة، لذا فأنا من سكان جنة الحق. وتواجدي معكم اليوم بالنيابة عن بني قومي الخوالد، الذين وكلوني بإنشاد ما قلته في هذا الشأن تضامنا مع حق الشعب التونسي. وأنا القائل:

              أَلَمْ تَرَيا أَنّي حَمَيْتُ حَقيقَتي

                                 وباشَرْتُ حَدّ المَوْتِ والمَوْتُ دونَها

              وجُدْتُ بِنَفْسٍ لا يُجادُ بِمِثلِها

                                وقُلْتُ اطْمَئِنّي حينَ ساءَتْ ظُنونُها

             وما خَيْرُ مالٍ لا يَقي الذّمَّ رَبَّهُ 

                                بِنَفْسِ امْرِئٍ في حَقِّها لا يُهينُها

    وانتهى من إنشاده، وقد سمعنا حفيف طيور الجنة، وهي تسبح امتنانا بهذا الإنشاد الرائع. وبالمناسبة، إن مخلوقات الجنة، لهم قدرة عجيبة بفعل التصور الذهني، في أن يتشكلوا ويبدوا في كل الهيآت المتخيلة تصورا. فإمكان الرجل منهم مثلا أن يتصور نفسه طائرا وإذا به كذلك. أو أن يتصور نفسه غمامة أو فرسا أو طائرا أو نجمة، بل حتى عجوزا في أرذل العمر. ولكن كل هذا ليس إلا من قبل المشاهدة الخارجية الخادعة. أما في جوهر الأمر وحقيقته الداخلية، فإن المخلوق ذكرا كان في الأصل أو أنثى، يشعر بهويته الخالدة بماهية تكوينه الروحي. وهذه الروح العجيبة، هي التي أخبرنا بها تعالى" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".

    وهكذا مضى صاحبنا وقدمت حورية أخرى زرقاء العيون، وقد اكتحلت بالإثمد العربي الخالص، فتفتحت نجالة عيونها، وتجملت بعيون لا يراها الرائي من بني آدم، إلا وأغمي عليه من السحر الفاتن، وقد قصرت من شعرها على شاكلة غلمان العصر العباسي، وتصدرت مكان الإلقاء قائلة:

    -        أنا شاعرة جاهلية، واسمي زرقاء اليمامة، ولقد كانت لي هبة النظر البعيد. وكنت قد حذرت أهلي ذات يوم، من خطر أعداء يحدقون بهم، وقد قدموا مختفين بأغصان الشجر. فعجبوا من قولي بأني أرى أشجارا تمشي. فكانت المأساة، وقتل أهلي، وقتلت معهم جورا، بعدما سملت عيوني. ولكن المولى العزيز، مد لي يد الرحمة وألحقني بجنة المستدركين"  فحق بذاك العفو عني، ودخلت على الدار الباقية، ولي رغبة في الإنشاد، تضامنا مع العدالة التونسية. وهذا قولي:

                       خُذوا لَهُم  حِذْرَكُمْ يا قومُ يَنْفَعُكُم

                                       فلَيْسَ ما قد أراهُ اليَومَ يُحْتَقَرُ

                       إنّي أَرى شَجراً من خَلْفِها بَشَرٌ

                                      فَكَيْفَ تَجْتَمِعُ الأَشْجارُ والبَشَرُ

                       صُفّوا الطَّوائِفَ مِنكُم قَبْلَ داهِيَةٍ

                                     من الأُمورِ التي تُخْشى وتُنْتَظَرُ

                      فقدْ زَجَرْتُ سَنيحَ القَومِ باكِرَةً

                                     لوْ كانَ يَعْلَمُ ذاكَ القَوْمُ إذْ بَكَروا

                      إنّي أرى رَجُلاً في كَفِّهِ كَنِفٌ

                                    أوْ يَخْصِفُ النَّعْلَ خَصفاً لَيْسَ يُعْتَذَرُ

                       ثوروا بأجْمَعِكُم في وَجْهِ أوّلِهِم

                                          فإنَّ ذلِكَ مِنْكُم-فاعْلَموا- ظَفَرُ

                       وغَوِّروا كُلَّ ماءٍ دونَ مَنْزِلِهِم

                                          فلَيْسَ من دونِهِ نَحْسٌ ولا ضَرَرُ

                         أو عاجِلوا القَوْمَ عِندَ اللّيْلِ إن رَقَدوا

                                           ولا تَخافوا لها حَرْباً وإن كَثُروا

    وانتهت من إنشادها، وعادت إلى مجلسها، مع حور العين اللائي بدون و"كأنهن الياقوت والمرجان"، على إيقاع رجعة ناي، لست أدري من كان من وراء تصورها الذهني. وقدم يدندن بإيقاع الحماسة، رجل تفيض عينيه من دموع البطولة، وحين استوى في مكان الإنشاد توجه نحونا قائلا:

    -        أنا سنان بن الفحل، أخو بني أم الكهف، من طيء. وأنا كما تعلمون شاعر جاهلي. ولقد نلت مرتبة الجنة، بما عرف عني من كرهي للظلم. وأنا اليوم من خوالد "جنة التعويض". ومقامي بينكم  هنا من باب التضامن مع الشعب المظلوم، الذي أقام الدنيا الفاسدة وأقعدها، من أجل استرجاع حقوقه المستلبة منه. ويكاد هذا الظلم الذي مسني، يكون مطابقا لأصل ظلم خالدنا الجديد، الشهيد محمد البوعزيزي. وأنا القائل في موقف مثل هذا:

                  وقالوا قَدْ جُنِنْتَ فقُلْتُ كَلاّ 

                                      ورَبّي ما جُنِنْتُ وما انْثَنَيْتُ

                  ولَكِنّي ظُلِمْتُ فَكِدْتُ أَبْكي 

                                      مِن الظُّلْمِ المُبَيَّنِ أو بَكَيْتُ

                   وقَبْلَكَ رُبَّ خَصْمٍ قد تَمالوا

                                       عَلَيَّ فما هَلِعْتُ ولا دَعَوْتُ

                   ولَكنّي نَصَبْتُ لَهم جبيني

                                      وآلَةَ فارِسٍ حتى قَرَيْتُ    

    وانتهى من إلقائه الحماسي. وبينما هو عائد إلى مجلسه، وإذا بملاك لاسلكي يطلع علينا ببرقية أرضية عاجلة. وصمت الحضور بخشوع في حضرته، وتقدم قائلا:

    -        إن محطة الجزيرة ألإخبارية، قد أفادتنا بتصريح قوامه، أن شيخ الإسلام يوسف القرضاوي، قد تقدم بالعزاء لعائلة الشهيد محمد البوعزيزي، وبطلب من المولى عز وجل، الرحمة والغفران من المولى.

    واختفى الملاك في لمح البصر، وتناول عقبه شيخ المعرة الكلمة قائلا:

    -        هذا خبر من أخوات كان، فلقد سبقت رحمة ربنا آمال البشر، هيا قوموا بنا لزيارة نافورة الأنوار الإلهية.

    وخرجنا من باب الرضوان وقد تجملت السماء اللاّ متناهية بنافورات ماء  عجيبة، تفيض عنها أقواس ضوء قزحية، معطرة بشذى سدرة المنتهى. وقد خرجت التصورات الذهنية من عنانها، فكان من عجائب تصورات الصنعة الإلهية، ما يمكن ترجمته بأقوال المتصوفة" فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر". فاستدرت متعجبا في الشيخ الجليل، مسائلا إياه عن هذه القدرة التصورية:

    -        وكيف يحدث كل هذا؟

    فأجابني:

    -        يا أبا اليزيد ! إنكم بنو الفانية، تعيشون أكثر ما تعيشون بفروجكم وبطونكم، أما نحن بنو الخلد، فإننا نعيش بجوهر الروح، ولا نعيش بمعدن صور المادة. وما التصورات الذهنية التي تراها سوى محض  خيال، لأنه لا حساب عندنا، ولا عقاب، ولا فضيلة، ولا رذيلة. فاشته ما شئت لك من حور العين والملذات، فلن تغير من مظهرك شيئا. لأن المتعة الحقيقية عندنا، تكمن في صفاء جوهر الروح، التي لا يمكن أن يدرك سر حقيقتها، سوى من فاز بالدار الباقية.

    وبينما نحن كذلك وإذا بالملاك البرقي يقف علينا قائلا:

    -        لقد انتهت مدة إقامتك بيننا يا أبا اليزيد ! وحان وقت إعادتك إلى الدار الفانية.

    وتدخل الشيخ الجليل قائلا:

    -        هذا ما كنت قد تصورت قوله لضيفنا، لولا قدومك يا سيدي الملاك، فامهلني أن أسايره لغاية بوابة الوداع؟

    -        لك تصورات أمانيك قال الملاك، وغاب عن أبصارنا.

    وسرت بصحبة الشيخ في اتجاه بوابة الخروج، وإذا برجل جليل مظهر الهيأة يعترض سبيلنا:

    -        كيف تترك ضيفنا ينصرف يا شيخنا الجليل قبل مقابلته؟

    وأجاب الشيخ الجليل:

    -        لقد كان ذاك ما تصورت يا أبا الطيب المتنبي.

    ولقد كانت فرحتي كبيرة، حين تعرفت في تصوري الذهني له، على هيأته الصورية المعروفة عندنا، في الدنيا واعتذرت له قائلا:

    -        للأسف الشديد إنني راحل الآن.

    فأخذني بالأحضان قائلا:

    -        أعلم كل هذا، إلا أنني رغبت في لقائك. ولئن كنت قد تناسيتني، أنا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وأنا القائل:

     

                    وإنَّما النّاسُ بِالمُلوكِ وما 

                                     تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلوكُها عَجَمُ

    وأنا أيضا القائل:

                       فُؤادٌ ما تَكْسِبُه المُدامُ  

                                       وعُمْرٌ مِثلُ ما تَهبُ اللّئامُ

                       ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ  

                                       وإنْ كانَتْ لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ

                       وما أَنا  باِلعَيْشِ فيهُم  

                                        ولَكِن مَعْدِنُ الذّهَبِ الرّغامُ

                       أَرانِبٌ غَيْرَ أَنّهُم مُلوكٌ   

                                           مُفَتّحَةٌ عُيونهُم نِيامُ 

          نعم لقد رحلت غاضبا عن العروبة وملوكها، وأنا اليوم في يوم عرس بما جاءنا من خبر تاريخي بثورة الياسمين العربية، فهنيئا لكم، وشدوا على ثورتكم بالنجاد. كان الله معكم، ومع الباقي إن شاء الله. أما أنا، بالرغم من كل ما قيل عني، من تجبر وتنبؤ، فأنا قد أدخلني رب العزة مع أخي شيخ المعرة، إلى جنة الرحمة، بشفاعة سيد المرسلين الذي قلت فيه:

                         لمْ يَخْلقِ الرّحمانُ مِثلِ مُحَمّد 

                                          أَحَدًا وظَنّي أَنّهُ لا يَخْلُقُ

    والآن وقد أحييت بتصوري الذهني، ثورتكم العربية التونسية، فامض على بركة الله ! فلقد عاد إلي فخري، وعادت إلي روحي العربية.

    وودعت فارسنا المتنبي وشيخ المعرة، وعبرت من باب الرجوع، وإذا بي

    بالملاك البراقي، قد اختطفني طائرا بي، على متن مركبته الفضائية البراقية. وصدى جملة طائشة لشيخ المعرة تلاحقني مذكرة " أوصيك بحبيبتنا فلسطين، لا تفرطوا فيها، إنها تاج قضيتكم ...لا... أبدا ... أبدا ... أبدا. وإذا بي أفيق من غيبتي، متواجدا بمقهى "إردال"، صحبة صديقي حسين عزوم، ونسخة من رسالة "الغفران " لأبي العلاء المعري، بين يدي. فقلت له متحيرا:

    -        والله يا أبا الحسن ما هي إلا رحلة بين النوم واليقظة.

    فأجابني بابتسامة ساخرة:

    -        إذا صح تصورك الذهني يا أبا الخيال، فكل شيء ممكن.

     

                                   -انتهت-

     

             بقلم فؤاد اليزيد السني – 16-03- 2012  - بروكسيل – بلجيكا

    أعلى الصفحة

    sounnif@gmail.com
    Previous Tab                     للمشاركة إضغط هنا                      Next Tab
     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     لانا راتب المجالي

    بروكسيل الأدبية ترحب بكل إبداعاتكم

    bruxellesaladabiya@gmail.com

    Partager via Gmail

    تعليقك
  • بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
    Website counter 

     

    الكلام المعتقل

     

     

    فؤاد اليزيد السني
    مقالات الكاتب

     

     

     

     

     

    قائمة المواضيع

      قصة قصيرة
       قصة ثصيرة جدا
         شعر 
         زجل 
     نزهات شاعرية  
        فلسفة و علوم
     
       مسرح 
      معرض 
      محاولات شابة
     من وحي الثرات
      سينما
     عالم الحكاية

     مواقف سياسية
     نقد أدبي 
     الصالون الأدبي
      من الأدب العالمي
     مقالات و دراسات إبداعية 
      

     

      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     الكلام المعتقل

    أنجيلا ديفيس


    الاتصال ومعنوياته الدلالية

         "أنا وهم" بهذه العبارة أفتتح الكاتب الروسي " أندريه سينيافسكي" مقالته، ممهداً بذلك إعادة طرح مفهوم " الاتصال" ومعنوياته الدلالية، لدى المساجين في تجربتهم مع السجن أو (المعتقل). ومن خلال تجربته كمعتقل سياسي سابق، أستطاع " أندريه سينافسكي" أن يثير من جديد، إشكالية الاتصال هذه الخاصية التي تميز النوع البشري ومقوماته الحضارية، ليبين لنا إلى أي مدى يعاني هؤلاء المساجين أو المعتقلين، من مشكلة الاتصال مع الآخر.

    حين نتحدث عن الاتصال فأننا نعني مباشرة تلك الأفعال المادية ، الإيمائية منها واللغوية وغيرها، التي تشغل وظيفة الوسيط بين " الأنا" و " الآخر" في المجتمع البشري. فالمجتمع البشري لم يحقق تطوره التاريخي والمجتمعي، إلا بفعل تقريب وتطوير وسائل الاتصال وأدواتها، وكانت النتيجة أن اتخذت هذه الوسائل والأدوات معنويات دلالية اصطلاحية، عن طريق "التصويت / اللغة"، من أجل تطوير قدرة الإنسان وكفاءته على الاتصال، فالتنظيم داخل وحدة اجتماعية مميزة بطابعها "السوسيو- ثقافي". وإذا كنت قد آثرت إشكالية الاتصال هذه، فلهدف واحد فقط، وهو التركيز على طابع الاتصال العام ألا وهو " اللغة" وعلاقتها بالكائن البشري .

    مما لا جدال حوله، أن اللغة بنوعيها (الشفاهي والكتابي) تحتل الوسيط الاتصالي الأسمى في مجتمعاتنا الحالية، إلا أننا كثيراً ما نعجز أمام اللغة وباللغة عن التعبير عن مقاصدنا، رغباتنا، وإرادتنا. وكثيراً أيضاً ما تحمل اللغة " القرينة الباطنية " مفاهيم دلالية محتجبة، تختلف اختلافاً تاماً عن سطح التعبير اللغوي بنوعيه: ( Plan de l’expression linguistique)، وحول هذا المحتجب الذي أدعوه بـ "القرينة أو السياق الباطني/ Contexte intérieur". إنني أريد بالفعل، أن أعيد قراءة مقال (أندريه سينيافسكي) لأن السياق أو القرينة الباطنية تساعدنا على فهم الرسالة الدلالية، التي نتلقاها من الأنا الذي يتألم، من الآخر الذي بعد فترة اعتقال طويلة، يكون قد فقد الوسائل الدلالية المعتادة، بسبب الوحدة، وأتجه لاستنزاف ما تبقى مما هو ذاتي، في سبيل قول شيء ما !!!نجهله أو نتجاهله، حين نرفض أن نتقبل خصوصيات اتصاله معنا. وهكذا نكون قد عدنا إلى إعادة طرح التساؤل نفسه، ذاك الذي سبق وطرحه "أندريه سينيافسكي" قائلا : "ترى ماذا كان يود قوله بكل هذا ؟"

    أزمة المكان و أزمة الحوار

         أريد أن أخصص هذا السؤال المتسائل عن السجين وعلاقته بالسجن، خصوصاً المعتقل السياسي أو السجين السياسي، إن أول ما يعصف بالسجين هو هذا الانقلاب الفجائي الذي يعصف بحياته، فالمكان بكل جمالياته النسبية يصبح ذو طابع جمالي مغاير، وإن يتحدد مكان السجين بعد ما كان حراً طليقاً بأربعة جدران ضيقة، تشكل لديه كل ما تبقى من حياته. أو كما يقول السجين السياسي "برايتن برايتنياخ": " حجرتي لا تتجاوز المترين عرضاً، بإمكاني أن التمس الجدران إذا فتحت ساعدي، ولا تتجاوز المتران والنصف المتر طولاً، والذي كان ينقصها نجده حتما في الارتفاع الذي يقاس بخمسة أمتار تقريبا". إذاً فمفهوم الاتصال هنا لدى "برايتن برايتنباخ"، قد أتخذ له شكلاً جديداً في التعبير عن المستويات القياسية لزنزانته، وهذه الجزئيات المكانية التي يقصها لنا السجين، تقدم لنا مفهوماً جديداً للمكان الخالي من كل جمالية تذكر، لأن الإنسان عادة، من خلال تجربته مع المكان يدخل في علاقة نفسية ، ويصبح بعد مرحلة معينة من حياته، مرجعه الجمالي الأساسي، والدليل على ذلك، مفهوم الحنين لدى الكائن البشري. والذي غالباً ما يتمثل لديه في بيت طفولته، أو وطنه أو أي مكان آخر، ذا قيمة عاطفية لديه. لكن السجين، بحكم المكان المفروض عليه، تصبح حالته النفسية أيضا، محكومة بهذا الإطار المكاني. لذلك يسعى السجناء عموما، إلى الاتصال بنا عن طريق أسلوب مفصل ومخصص، يحسب لكل ظاهرة حسابها. ولنعد إلى مقال "أندريه سينيافسكي" لنوضح وسائل الاتصال، هذه "المستفزة"، عن طريق السياق الباطني. يرى "سينيافسكي" أنه من خلال وجهة نظر معينة، فإن طريقة الإنسان المعاشية، ليست إلا محاولة للإتصال مع الآخر. لكن هذا الأسلوب المعاشي العادي، يتخذ له شكلا اتصاليا جديدا لدى السجين. خاصة، حين يشعر هذا الأخير، بأن فترة حبسه، قد تطول إلى أمد غير محدد، فيقوم حينئذ بممارسة وسائل عنيفة على ذاته، كأن يلتهم ملعقة، أو يدسها في مؤخرته، أو أن يشرب دمه أو يأكل لحمه. أو كما يروي "سينيافسكي" عن هذه الحالة الغريبة التي شاهدها في سجنه:" كان ثمة في السجن رجلان، أحدهما محكوم بالسجن المؤبد، ومصاب بمرض انفصام الشخصية، يقيم مع سجين آخر "موش" يقوم بدور العشيقة. وكان الاثنان حين حلول عيد ميلاد رأس السنة، يحتفلان بدورهما، إذ يفرغ المريض سائله المنوي في صحن ويرش عليه دمه، وبذلك يقتسمان هذا النبيذ "الميثولوجي"، بمناسبة إعلان مشاركتهما في الاحتفال". بهذا الأسلوب الذي يمارسانه هذان السجينان، تختفي اللغة، تفقد قيمتها الدلالية، ويحل محلها الجسد، ليصبح الملكية الذاتية الوحيدة، التي تبقى في متناول يد السجين، كآخر ما تبقى. والقرينة الباطنية في هذه الحادثة، تعلن لنا عن الرسالة الخفية التي يحتج بها هذان السجينان. إن الجسد يصبح لدى السجين، وفي نهاية المطاف، مكانه الوحيد الذي يستقر فيه، بعدما ينزع الآخر منه حريته. ويصبح أيضا، الواجهة التي من خلالها يتوجه السجين إلى الآخر، ليعلن له رفضه عن الوضع الذي يعيشه. وثمة بعض ظواهر احتجاج أخرى، تحمل دلالات رسائلها المحتجبة ضمن السياق الداخلي. يروي "سينيافسكي": "لنأخذ مثلا، ظاهرة معروفة بشكليها الفردي والجماعي، منذ مدة طويلة، ألا وهي ظاهرة الإضراب عن الطعام. هذه الظاهرة هي الرمز المباشر للموت، متمثلة في حدودها القصوى أمام الآخر – هنا أيضاً وللمرة الأخيرة – إذ يعلن السجين عن رفضه القاطع لمواصلة الأتصال مع الآخر، الذي يفرض نفسه عليه في علاقته معه. ويعلن أيضاً عن رفضه للنظام المفروض عليه ولطريقة الاتصال المبتذلة. إذاً، فالسجين مبدئياً، لا يرفض الطعام من أجل الطعام، وإنما يحاول أن يحتج بطريقة اتصال جديدة، يتخذ فيها جسده الإطار الذاتي المباشر. ومثلما يضرب هؤلاء عن الطعام، يعتمد آخرون إلى استحداث وسائل أخرى. كظاهرة الإضراب عن الكلام مثلاً، حين يكف السجين عن الكلام مع المشرفين أو الجواب عن الأسئلة التي يوجهها له المسئولون. وبشكل عام الكف عن الكلام قطعياً دونما تلفظ بأية كلمة،و مع ذلك يتابع الحفاظ على عمله وكل المهام المتعلقة به داخل السجن. ويرى (سينيافسكي): " أن الذي لا ينبس ببنت شفة، إنما يرمز بالمقابل إلى الرفض المطلق والاحتقار الكلي للغير، للآخر الشبيه (الإنسان) كشبيه". والصمت احتجاج أفظع من الإضراب عن الطعام وأفظع من الانتحار. لأن الصمت يولد شبهة كئيبة لا يمكن إيصالها عن طريق اللغة، وهذا إلى جانب افتراس الذات " autocannibalisme  " الإضراب عن الطعام والكف عن الكلام،  تتخذ وسائل الاتصال لدى السجناء شكلاً دلالياً جديداً، ويصبح "الأنا" الذي يعاني، متميزاً بوسائل اتصاله مع "الآخر" الذي يستهين بوجوده ، يستصغره ويتجاهله. والقرينة الباطنية تكمن، في إمكانية تفسير هذا الحقل الدلالي الذي يستحدثه السجين، لأن كل الوسائل التقليدية تصبح غير ذات قيمة لديه. لذلك لا نستغرب هذا التوحش الذاتي، الذي يمكن أن يمارسه السجين على نفسه. وفي إطار غياب الآخر كمحاور ومشارك، يتراجع السجين إلى أقصى حدود عزلته، ليجعل من جسده نافذتين: واحدة للموت والأخرى للانتقام من الجنس البشري.

     

    "برايتن برايتنباخ" أو العائد من مقبرة الموتى  

         ما تزال طاحونة السجن تصنع من المساجين مجرد خرق هيكلية، تصدرها تارة إلى المقبرة وتارة أخرى إلى الألم الأقصى. ومع ذلك لم يعمل الرأي العام أو الحكومات المعنية إلا على تعميق ألم هؤلاء، دونما أية محاولة اتصال جادة للتعامل مع المساجين. فإن الإنسان يزج به في السجن لمجرد إفصاحه عن رأي سياسي معين، لعمري تلك بداية اللعنة وخاتمتها على النوع البشري.

    ولننتقل إلى المعتقل السياسي سابقا، في أفريقيا الجنوبية، ونقصد به "برايتن برايتنبخ"، لنرى إلى أي مدى تتداخل، تتشابه وتتقارب تجربته مع نظيره "أندريه سينيافسكي". مع الإشارة إلى أن كل تجربة منهما تختلف عن الأخرى. فمع "سينيافسكي"، قد وصل الحديث عن التجربة السجنية إلى قمة السخط، بينما مع "برايتن برايتنباخ" قد ورد الحديث عن التجربة، في طابع سردي هادئ ومؤثر في آن، ووتيرة ممتلكة لعنان غضبها. وبهذا الخصوص، تشكل ظاهرة العزلة، المحور الأساسي لتجربة "برايتنباخ"، إذ يصرح: " كنت في عزلة تامة. والعزلة تعني أن لا أرى، وبأن لا أتصل بأي سجين آخر. فقط، حين يمررونني بالممر، فأصادف أحد المساجين مشتغلا بتنظيف البلاط". إن اتباع هذه السياسة القمعية، هي بالدرجة الأولى نفي لخصوصيات الآخر "السجين" الاتصالية، وقتل غير معلن لعاداته المكتسبة. ويضيف "برايتناخ" قائلا: " خلال هذه الليلة الأولى، شعرت - هذا تأكد فيما بعد – بأن هذا المكان، هو مكان الموت نفسه. إنه المكان المستحي حيث يقاد الناس، من أجل أن تقتلهم السلطة ببرودة أعصاب. إنها واقعية الحراسة العليا لبيت الموتى " terminus". إن هذه العبارة الأخيرة، تذكرني بالكاتب الروائي "دوستيوفسكي" حين إصدار العفو عنه في اللحظة الأخيرة، بعدما كان حكم الإعدام قد صدر في حقه. ويروي الكاتب هذه الحادثة، من كتابه " ذكريات من بيت الموتى " قائلا، بأن هذه الفترة الزمنية التي عاش أحداثها عالقا بين أعواد المقصلة وما بعدها، قد غيرت مجرى حياته كليا. وأصبح إنسانا آخر، غير ذاك الذي أعدم رمزيا في نظره، ومضى إلى المزبلة التي ندعوها إنسانية. إن الوسائل القمعية التي تخولها السلطة - كيفما كان نوعها – للمسؤولين والمشرفين على حياة المساجين، تضر ضررا كبيرا بالمخلوق البشري. خاصة وأن لسجين بمجرد ما يدخل إلى السجن يجرد من جميع خصوصياته "الاجتماعية" باستثناء جسده، الذي يبقى مسرحه الأخير للانتقام من الآخر بطريقة معنوية، انطلاقا من حلق الرأس بطريقة عنهجية، إلى غاية تثبيت الرقم الرسمي على ياقة قميص السجين. وهكذا يتحول هذا الأخير إلى مجرد رقم لا غير، ويبقى عليه أن يستجيب إلى كل الأوامر الأخلاقية الرسمية، التي برمجها الآخر- المكبوت – له. علما بأن السجين من جهته، باعتماده على صلابته وصموده، يبتكر وسائله الفنية الخاصة به للاتصال بالسجين الآخر، أو بعرقلة أخلاقيات المراقبين الرسميين. فعملية الدق على الصحن بطريقة معينة، هي عمليا أسلوب حوار مع السجين الآخر الذي يتواجد في الزنزانة المجاورة. وظاهرة الانتحار أو ما شاكلها، هي رد فعل إيجابي بالنسبة للسجين على أخلاقيات المراقبين الرسميين، الذين يرفضون الاعتراف ببشريته ويعتبرونه مجرد حيوان غير مهذب "بلغتهم الرسمية". وكما يقول "برايتنباخ": " ينكت السجين بسخرية متعالية عن الحراس، على غرار نكتة ذاك الطفل الذي سأل أباه عما إذا كان بإمكان الذكور أن ينجبوا أطفالا مثل النساء. وعن الأب الذي يجيبه قائلا:" بالطبع من أين تعتقد أن حراس سجن "بوتا" قد جاءوا؟ هذه السخرية هي ظاهرة من أدبيات السجن، التي يجد فيها السجين متنفسا لحالته النفسية المقموعة.

    وكما يتخذ الطابع المكاني إيقاعا جديدا في حياة المساجين، كذلك يصبح العامل الزمني مجرد فترات متقطعة من العامل التاريخي الطبيعي. فهنالك من يصبح الزمن لديه، مجرد لحظة منقطعة من الشهر، حين يسمح له بمقابلة أحد زواره من خلف زجاج فاصل بينهما. وكما يقول "برايتنباخ": " كان الشهر لدي معلما بثلاث عناصر مهمة، لأنها كانت تخول لي الإتصال بالعالم الخارجي: مرة في الشهر كان يسمح لي بتلقي رسالة أو ببعث رسالة واحدة أو بتلقي زيارة نصف شهرية، كانت تتم في حجرة صغيرة تفصلك عن زائرك بزجاج سميك." وهنالك أيضا من يصبح الزمن لديه، متوقفا على تلك اللحظة التي قد يغادر فيها السجن. وهنالك من يفقد مفهوم الزمن، ويصبح لديه بدون أية قيمة تذكر. وأذكر بأنني كنت قد شاهدت أحد المساجين، يتقدم بشكوى، إلى أحد المختصين بقضايا السجن والسجناء - عبر ندوة تلفزيونية مصورة – عن تجربته في سجن "هوي". وقد بدا متأثرا جدا، بظاهرة الزجاج العازل بين السجين وزواره. قائلا:" كيف يمكنكم أن تتصوروا أبا بحاجة إلى تقبيل طفله من وراء زجاج؟ إنها لعمري أقصى ما عانيته في تجربتي السجنية. وأعتقد بأن هذا السجين من خلال تجربته الشخصية، يريد أن يقول للآخر، الحكاية نفسها التي سبق ل"سينيافسكي" أن استهلها بتساؤله:" ترى ماذا كان يريد قوله بكل هذا؟"

    النقمة وأدب السجون

    "جان جنيه، عبد اللطيف اللعبي، محمد الأشعري، أنجيلا ديفس ورجيس دوبريه"

         بالرغم من هذه اللعنة على ظاهرة السجن، فأن ثمة بعض المساجين الذين استطاعوا أن يبلوروا من داخل الزنزانة، أدباً ذا طابع إنساني عالمي. فالكاتب الفرنسي (جان جنيه) الذي رفضه المجتمع كلقيط لا جذور له، ورفضه السجن كحيوان غير مرغوب فيه، أستطاع أن يقدم للعالم البشري الخارجي الذي يتمتع بحرية أمزجته ونظمه التعسفية، ملامح إنسانية عميقة في دلالاتها ومعنوياتها. ولم يكن الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) ونخبة من الكتاب الفرنسيين ليتقدمون إلى المحكمة العليا بطلب العفو عن السجين "جان جنيه"، لولا أنه قدم لهم أدباً مسرحياً وشعرياً واقعياً في معاناته ودلالاته.

    ولقد عاش التجربة نفسها، كل من "أنجيلا ديفيس" التي روتها في مذكراتها العادية، ومحمد الأشعري الذي ضمنها ديوانه "عينان بسعة الحلم"، و"روجيه دو بريه" في كتابه " بين نارين وأربعة جدران"، وعبد اللطيف اللعبي في روايته الخيرة "مجنون الأمل". وثمة آخرون أدهشوا العالم حقاً بصراحتهم وقدرتهم الأدبية المتميزة. ولنستمع إلى هذه الصرخة التي كان يصرخها "روجيه دوبريه" في وجه العالم، حين نفذت قضبان السجن عميقة ومؤلمة في ألم عزلته: " إن العالم هو كوكبة من خلايا صغيرة مقفل عليها مع سجين خلف الباب .. ! هنالك دائماً في مكان ما في أعماق قلبك، كلمة تترقب بانتظار أن تطلق سراح سجين انتفض وأيقظها".

    "ترى ماذا كان يريد قوله بكل هذا؟" إن الاتصال بالآخر، عن طريق أدبيات السجن، هي الوسيلة الوحيدة والمباشرة لمواجهته وهزمه على أرض ثقافته. ولئن كانت ثقافة السجن تأتي في غالب الأحيان، مطبوعة بطابع النقمة والتمرد والتجاوز، إلا أنها تظل مع ذلك أدبا متميزا من بين الأدبيات العالمية. وخاصية هذا الأدب الآسر/المأسور، أنه يستطيع أن ينفذ إلى ما وراء الكلمات إلى السياق الباطني، ليعريه من كل قشور الالتباس والغموض، فيأتي المعنى الدلالي خاليا من كل تقرير وصفي، وحاملا بكل زخات التنوع والتصدير. وكما ينشدنا محمد الأشعري من ديوانه المذكور أعلاه، من قصيدته "التفاصيل":

    سبقه عشر حولا

    والفارس يقهر القلعة الإسمنتية باطمئنانه

    الصاخب

    ويستمع بكامل وعيه لأهازيج الرحل تخرج من

    عمق الصخور

    الرصاصية

    من عمق

    لحظات الغضب الأخيرة .."

    نصادف في هذا المقطع الشعري الأخير، كل معاني الحياة، إذ تتحول الصخور الرصاصية إلى نافورة أهازيج، تعيد للسجين ثقته الجمالية بكل شيء. ثقته بجمال الأشياء التي قد يمر بها الآخر مرور الكرام. وهذا الإحساس المنفرد والمباشر، يغني السياق الباطني للنص ويضفي عليه صفة جمالية ذات ملامح إنسانية مؤثرة. فيأتي بذلك كأسمى "وسيلة سلمية" من وسائل الاتصال مع الآخر.

    وأخيراً وفي انتظار توطيد أسلوب اتصالي واقعي مع هؤلاء المعذبين في الأرض، أترك الكلمة الأخيرة للمناضلة البولونية "روزا لكسمبورغ" حيث تقول: " عنف الصدمة الأولى يخبو حين تصبح الصدمات يومية .. ! "

     

    -          نشرت هذه الدراسة لأول مرة في مجلة "البديل" الصادرة بالعربية والفرنسية، العدد 25 – جويلية -1986 / ذو القعدة 1406ه -12-ف. فرنسا / باريس.

    -          ولقد أدخلت عليها بعض التعديلات اللفظية الطفيفة حين إعادتي لنشرها.

                    بقلم : فؤاد اليزيد السني. / 25-01-2012 / بروكسيل.

    المراجع والمصادر

    - Breyten Breytenbach, né le 16 septembre 1939 à Bonnieval, province du Cap, est un poète, écrivain, dramaturge, peintre et aquarelliste sud-africain d'origine et ...

    - Andrei Donatovich Sinyavsky (Russian language: АндрейДонатовичСинявский) (8 October 1925, Moscow – 25 February 1997, Paris) was a Russian writer,

    Andrei Siniavsky, Moi et eux  sur quelques formes de la communication dans les conditions de solitude. La reloi, 37, 13 septembre 1975.

    - Breyten Breyten Bach, J.A.M. numéru du 06 juin 1984

    - Document, dans les missions d’Afrique du sud .
    - fourré d'Amérique latine) ou encore tarte à la noix de coco… En tout 17 recettes étaient présentées, toutes ..... nale Régis Dupré, présent le jour de la signa

    -          جاك ووديس، الثورة والطبقات، مدخل لقراءة نظريات: فانون، دوبريه، هيربيرت ماركيوز

    -          محمد الأشعري، عينان بسعة الحلم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981

     

    أعلى الصفحة

    sounnif@gmail.com
    Previous Tab                     للمشاركة إضغط هنا                      Next Tab
     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     لانا راتب المجالي

    بروكسيل الأدبية ترحب بكل إبداعاتكم

    bruxellesaladabiya@gmail.com

     

    1 visiteur actuellement sur le site
    Partager via Gmail

    تعليقك
  • بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
    Website counter 

     

    من تاريخ الكتابة العربية 2

     

     

    زكرياء قاسم وعلي
    مقالات الكاتب

     

     

     

     

     

    قائمة المواضيع

      قصة قصيرة
       قصة ثصيرة جدا
         شعر 
         زجل 
     نزهات شاعرية  
        فلسفة و علوم
     
       مسرح 
      معرض 
      محاولات شابة
     من وحي الثرات
      سينما
     عالم الحكاية

     مواقف سياسية
     نقد أدبي 
     الصالون الأدبي
      من الأدب العالمي
     مقالات و دراسات إبداعية 
      

     

      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا

     

    هـذه مـجـمـوعـة مـن الـمـقـالات ألـقـيـتْ عـلـى طـلـبـة الـسـنـة الأولـى مـاسـتـر شـعـبـة الـلـغـة الـعـربـيـة و الـتـرجـمـة فـي درس الـلـسـانـيـات الـتـزمُّـنـيـة / الـديـاكـرونـيـة خـلال الـسـنـوات الـثـلاثـة الـمـاضـيـة. أتـطـرَّق فـيـهـا لـمـجـمـوعـة مـن الـمـواضـيـع تـهـمّ تـاريـخ لـغـة الـضـاد    كـالـكـتـابـة و الـنـحـو و جـمْـع الـلـغـة.  وقـد ارتـأيْـتُ نـشْـر أجـزاء مـن هـذه الأبـحـاث عـلـى صـفـحـات مَـجـلـتـنـا تَـعـمـيـمـا للـفـائـدة و إثـراء للـنِّـقـاش. و سـتـكـون الـبـِدايـة مـع تـاريـخ الـكِـتـابـة. و اللـه ولـي الـتَّـوفـيـق.                                                                

     

    مـن تـاريـخ الـكِـتـابـة الـعـربـيـة.(2)

    ثـانِـيًـا: الـكِـتـابـة فـي الـمَـرحـلـة الإسْـلامـيـة 610 / 661م.

     

    نـقـصِـد بـالـمَـرحـلـة الإسـلامـيـة الـفَـتـرة الـنَّـبـويـة و الـعَـصـر الـراشـدي أي مـا يُـسَـمَّـى عـادة فـي كُـتُـب الـتـاريـخ بـ "صَـدْر الإِسْـلام". و لـكـن قـبْـل أنْ نـتـحـدّث عـن هـاتـيْـن الـفـتـرتـيْـن سـنـتـكـلَّـم بـاخـتـصـار عـن وَضْـعـيـة الـكِـتـابـة عـنـد الـعـرب قُـبَـيْـلَ الإسْـلام.

     

    أ= الـعـرب و الـكِـتـابـة قُـبـيْـلَ الإسـلام.

    كـان أغـلـب الـعـرب قـبْـل الإسـلام يَـعـيـشـون رُحَّـلاً مُـتَـنَـقِّـلِـيـن. و مَـعـروف أنَّ هَـذَا الـنَّـمَـط فـي الـعـيْـش لا يـحـتـاج عـادة إلـى الـكِـتـابـة. و الـقَـلـيـل مـنـهـم كـان يَـعـيـش عـلـى الـفِـلاحـة أو فـي الـمُـدن. و لـكـن الـتِّـجـارة الَّـتـي كـانـت مَـوجـودة بـكَـثـرة كـانـت تـتـطـلّـب كِـتـابـة الـعُـقـود سـواء للـبـيـع و الـشِّـراء أو الإتِّـفـاقـيـات الَّـتـي تـضـمَـن سَـلامـة الـقَـوافِـل الـتِّـجـاريـة. الإتِّـفـاقـيـات الـسِّـيـاسـيـة و الـعـسـكـريـة أيـضـا كـانـت مَـكـتـوبـة و أشـهـرهـا هـو "حِـلْـفُ الـفُـضُـول" و حـلـف "لَـعَـقـة (أوْ أكَـلَـة) الـدَّم". وَثـائـق مِـلـكـيـة الـعَـبـيـد هـي أيـضـا كـانـت مَـكـتـوبـة عـلـى شـكـل "صُـكـوك". دون أنْ نَـنـسـى الـمَـسـيـحـيـيـن الـعـرب الَّـذيـن كـانـوا يـكـتُـبـون طُـقـوسـهـم الـدِّيـنـيـة. و لـكـن أشـهـر الـمَـكـتـوبـات عـلـى الإطـلاق فـي هـذا الـعـصـر هـي "الـمُـعَـلَّـقَـات". و هـي سـبـع أو عـشـر قَـصـائِـد شـعـريـة رائـعـة كـتَـبـهـا الـعـرب بـمـاء الـذّهـب و عـلَّـقـوهـا عـلـى سِـتـار الـكـعـبـة إنْ صـدقَـت الـرِّوايـات.                                                      

    وإذا أخـذنـا "مَـكَّـة" بـاعـتـبـارهـا أكـبـر و أهـمّ مَـديـنـة فـي تـلـك الـفـتـرة سـنـجـد أنّ الـكِـتـابـة فـيـهـا كـانـت قَـلـيـلـة جـدًّا. و لـكـي نُـعـطـي صُـورة عـن ذلـك نَـقـول : إنَّ مَـكـة فـي ذلـك الـعـصـر كـانـت أهـمّ مَـركـز تِـجـاري فـي الـعـالَـم الـقَـديـم و هـي بـمَـثـابـة "وول سـتـريـت" فـي عـصـرنـا الـحـالـي. و مَـكـانـتـهـا الـدِّيـنـيـة بـفَـضْـل "الـكَـعـبـة" هـي بـمَـثـابـة

    " الـفـاتـيـكـان " فـي أيّـامـنـا. مَـديـنـة مـثـل هـذه تُـسـاوي " وول سـتـريـت + الـفـاتـيـكـان"  لـم يَـكـن فـيـهـا حَـسَـبَ "الـبَـلاَذري":"إلاَّ سَـبْـعَـةَ عَـشَـرَ شَـخْـصًـا يَـعْـرِفُـونَ الْـقِـراءة و الـكِـتـابـة مـنـهـم عَـشْـرُ نِـسَـاء" عَـشَـرَةٌ مِـنْـهُـمْ كـانـوا مـن أوائـل الـمُـسـلـمـيـن. وَضْـعـيـة الـكِـتـابـة فـي مَـكَّـة تَـعـطـي دَلـيـلا قـاطـعـا أنَّ الـكِـتـابـة كـانـت قَـلـيـلـة جـدا بـيْـن الـعـرب قُـبَـيْـل ظُـهـور الإسـلام. و أنّ الـثَّـقـافـة الـعـربـيـة هـي ثَـقـافـة شَـفـويـة بـامـتـيـاز. هـذه الـوضـعـيـة سـتـبـدأ فـي الـتـغـيُّـر مَـع ظُـهـور الإسـلام الَّـذي سـيـدفَـع إلـى كَـثـرة الـكِـتـابـة. و لـكـنّ هـذا الـتـحـوُّل مـن الـشَّـفَـوي إلـى الـكِـتـابـي سـيـأخُـذ قـرنـيْـن عـلـى الأقـل لـكـي يـخـلُـق الـوسـائـل (الـمِـكـانِـيـزْمـات) لـهـذا الـتـحـوُّل.                                          

     

    ب= ظُـهـور الإسْـلام: الـفَـتـرة الـنَّـبَـوِيَّـة 610 / 632 م

    يُـمـكـن أنْ نـعـتـبـر أنَّ ظُـهـور الإسـلام شـيء مُـهِـمٌّ جِـدًّا فـي تـطـوُّر الـكِـتـابـة. بـل نـسـتـطـيـع أنْ نَـقـول، و بـِكَـثـيـر مـن الإطـمـئـنـان، إنّ ظُـهـور الإسـلام هـو بـِدايـة الـتـحـول الـتَّـدريـجـي الـبـطـيء مـن الـثَّـقـافـة الـشـفـويـة إلـى الـثَّـقـافـة الـكِـتَـابـِيـة.

     و سـنـذكُـر هـنـا ثـلاثـة عَـوامِـل  سـاعـدتْ بـشَـكـل كَـبـيـر عـلـى كَـثـرة الـكِـتـابـة و تـطـوُّرهـا لـيْـس فَـقَـطْ فـي الـفَـتْـرة الـنَّـبـويـة بـل فـي الـقـرنـيْـن الـتـالـيـيْـن. و هـي : 1= الـوَحْـي و نُـزول الـقـرآن. 2= الـحَـديـث الـنَّـبَـوي. 3= تَـصَـرُّفـات الـنَّـبـِي مُـحَـمَّـد.


    1= الـوحـي و نُـزول الـقُـرْآن.

    بـدأ الإسـلام مـع نُـزول الـوحـي. و هـذا الـوحـي هـو "الـقـرآن" و هـو نـص شَـفـوي كـان يُـلـقـيـه الـمَـلاك "جـِبـريـل" إلـى الـنَّـبـي "مُـحَـمَّـد". وبـمـا أنّ هـذا الأخـيـر لـم يـكـن يـعـرِف الـقِـراءة و الـكِـتـابـة، فـقـد اتَّـخـذ مـنـذ بـِدايـة الـوحـي "كُـتَّـابًـا" تـكـاثَـر عـددهـم مـع الـوقـت. هـؤلاء هـم الـمَـعـروفـون الـيـوم تـحـت اسـم " كُـتَّـاب الـوحـي". فـي الـمَـرحـلـة الـمَـكِّـيـة، نـزَل أكـثـر مـن ثُـلُـثَـيْ الـقُـرآن. و بـعـمـلـيـة حِـسـابـيـة بَـسـيـطـة نَـقـول: نـزَلـتْ تَـقـريـبـا 86 سُـورة مـن 114 أي حَـوالـي 4613 آيـة مـن مَـجـمـوع 6236 آيـة. و كـلُّ هـذه الـسُّـوَر و الآيـات كـانـتْ مَـحـفـوظـة كِـتـابـة وَإنْ بـشـكـل مـتـفـرِّق.                                                    

    فـي الـفـتـرة "الـمَـدنـيـة" اسـتـمـر نُـزول الـوحـي بـشـكـل مُـتَـفَـرق كـمـا كـان الـحـال فـي مَـكَّـة. واسـتـمـرَّ تَـدويـن الـوحـي. فـي هـذه الـفـتـرة نـزلـتْ تَـقـريـبـا 28 سُـورَة أيْ حَـوالـي 1623 آيـة. فـي آخِـر أيّـام الـنَّـبـي مُـحَـمَّـد بـدأتْ مُـحـاولات فـرديـة لـجـمـع الـقـرآن عـلـى شـكـل كِـتـاب. و نـحـن نـعـلَـم أنّ "عَـبْـدَ الـلّـه بْـنَ مَـسْـعُـود" جـمَـع الـقُـرآن عـلـى شـكـل كِـتـاب و أنّ الـنَّـبـي مُـحَـمَّـد راجَـع مـعـه هـذه الـنُّـسـخـة( الـمُـراجَـعـة كـانـتْ شَـفـويّـة و لـيْـسـتْ كِـتـابـيـة). الـقُـرآن كـلـه كـان مَـكـتـوبـا و لانَـشُـكُّ أنَّ عـددا مُـهِـمًّـا مـن الـمُـسْـلـمـيـن كـانـوا يـمـلِـكـون نُـسَـخًـا  مَـكـتـوبـة مـن الـقُـرآن كـامـلـة أو جُـزْئـيـة إمـا عـلـى جُـلـود الـحـيـوان أو ألـواح الـخَـشَـب...  هـذه الـكِـتـابـة كـانـتْ بـِدون نُـقَـط و لاَ حَـرَكـات.           

     هـذا هـو الـقُـرآن مـن الـخـارِج / الـتـاريـخ، أمـا مـن الـداخِـل فـنـجـد فـيـه آيـات كَـثـيـرة جـدًّا تـدعُـو إلـى الـعـلـم و الـمـعـرفـة و هـذا يـتـطـلَّـب الـكِـتـابـة. و مـن الآيـات الَّـتـي تـدعُـو بـِشـكـل واضِـح إلـى كِـتـابـة و تَـوثـيـق الـعَـمـلـيـات الـتِّـجـاريـة نـجـد الآيـة 282 سُـورة 2 (الـبَـقَـرة). هـذه هـي أطـول آيـة فـي الـقُـرآن و يـكـثُـر فـيـهـا فِـعْـلُ الأمـر و الـمُـجـتـمـع الَّـذي نـزَلـتْ فـيـه هـو مُـجـتـمـع تِـجـاري.                                                            

    + الـقـرآن: صَـحـيـح أنَّ الـوحـي كـان شَـفـويـا و لـم يـكـن كِـتـابـيـا. وقـد كـان كـذلـك  مـن   جِـهـة إحـتـرامـا للـطَّـبـيـعـة الـخـاصـة للـرسـول الَّـذي لـم يـكـن يـعـرِف الـقِـراءة و الـكِـتـابـة و مـن أُخـرى إحـتـرامـا للـثَّـقـافـة الـعـربـيـة الـشـفـويـة. لـكـن تَـدويـنـه كِـتـابـةً و بـسُـرعـة كـان يـتـم أوَّلا بـأوَّل. و فـي الـقـرآن نـفـسـه نـجـد آيـات تـرفَـع مـن قِـيـمـة الـكِـتـابـة و الـمَـكـتـوب. و أشـهـر آيـة تـتـحـدَّث عـن تَـقـيـيـد الـمُـعـامـلات الـتـجـاريـة كِـتـابـة، هـي أطـول آيـة فـي الـقـرآن و هـي الآيـة 282 مـن سـورة الـبـقـرة[1]. تـقـول الآيـة: " يَـا أيُّـهَـا الَّـذِيـنَ آمَـنُـوا إِذَا تَـدَايَـنْـتُـمْ بـِدَيْـنِ إِلَـى أَجَـلِ مُـسَـمًّـى فَـاكْـتُـبُـوهُ. وَلْـيَـكْـتُـبْ بَـيْـنَـكُـمْ كَـاتِـبٌ بـالْـعَـدْل. وَ لاَ يَـأْبَ كَـاتِـبٌ أَنْ يَـكْـتُـبَ كَـمَـا عَـلَّـمَـهُ الله فَـلْـيَـكْـتُـبْ. وَ لْـيُـمْـلِـلِ الَّـذِي عَـلَـيْـهِ الْـحَـقُّ و لْـيَـتَّـقِ اللهَ رَبَّـهُ، وَ لاَ يَـبْـخَـسْ مِـنْـهُ شَـيْءً. فَـإنْ كَـانَ الَّـذِي عَـلَـيْـهِ الْـحَـقُّ سَـفِـيـهًـا أَوْ ضَـعِـيـفـًا أَوْ لاَ يَـسْـتَـطِـيـعُ أنْ يُـمِـلَّ هُـوَ فَـلْـيُـمْـلِـلْ وَلِـيُّـهُ بـالْـعَـدْلِ. وَ اسْـتَـشْـهِـدُوا شَـهِـيـدَيْـنِ مِـنْ رِجَـالِـكُـمْ. فَـإِنْ لَـمْ يَـكُـونَـا رَجُـلَـيْـنِ فَـرَجُـلٌ وَ امْـرَأَتَـانِ مِـمَّـنْ تَـرْضَـوْنَ مِـنَ الـشُّـهَـداءِ أَنْ تَـضِـلَّ إحْـدَاهُـمَـا فَـتُـذَكِّـرَ إِحْـدَاهُـمَـا الأُخْـرَى. وَ لاَ يَـأْبَ الـشُّـهَـدَاءُ إذَا مَـا دُعُـوا. وَ لاَ تَـسْـأَمُـوا أنْ تَـكْـتُـبُـوهُ صَـغِـيـرًا أَوْ كَـبـِيـرًا إِلَـى أَجَـلِـهِ. ذَلِـكُـمْ أَقْـسَـطُ عِـنْـدَ الله وَ أَقْـوَمُ لِلـشَّـهَـادَةِ وَ أَدْنَـى ألاَّ تَـرْتَـابُـوا. إلاَّ أنْ تَـكُـونَ تِـجَـارَةً حَـاضِـرَةً تُـدِيـرُونَـهَـا بـيْـنـكـم فَـلَـيْـسَ عـلـيْـكـم جُـنـاحٌ ألاَّ تَـكْـتُـبُـوهـَا. وَ أَشْـهِـدُوا إِذَا تَـبَـايَـعْـتُـمْ. وَ لاَ يُـضَـارَّ كَـاتِـبٌ وَ لاَ شَـهِـيـدٌ. وَإنْ تَـفْـعَـلُـوا فَـإِنَّـهُ فُـسُـوقٌ بـِكُـمْ. وَ اتَّـقُـوا اللهَ. وَ يُـعَـلِّـمُـكُـمُ اللهُ. وَ اللهُ بِـكُـلِّ شَـيْءٍ عَـلِـيـمٌ."                       

     فـهْـم هـذه الآيـة فـي سِـيـاقـهـا الـلُـغـوي( كَـثـرة استـعـمـال فِـعـل الأمـر بـمُـخـتـلـف أشـكـالـه) و سِـيـاقـهـا الـمُـجـتـمـعـي ( مـجـتـمَـع تِـجـاري) الـحَـقـيـقـيـيْـن يُـظـهـر مـدى أهـمـيـتـهـا فـي انـتـشـار الـكِـتـابـة.                                                              

    2= الـحَـديـث الـنَّـبَـوي

    "الـحَـديـث" هـو مُـجـمَـل أقـوال الـنَّـبـي مُـحَـمَّـد. و كَـثـيـر مـن هـذه الأقـوال يـدعـو إلـى الـكِـتـابـة. سـنـذكُـر فـقـط حَـديـثـيْـن:                                                           

    ++ حَـديـث الـوصـيـة:و هـو الـحَـديـث 2264 فـي سُـنَـنِ الـتِّـرْمِـذي. و فـيـه يـأمُـر الـمُـسـلـمـيـن بـِكِـتـابـة وَصِـيَّـتِـهِـم. و مـا عـلـيْـنـا إلاَّ أنْ نَـتَـخَـيَّـلَ كُـلَّ الـمُـسـلـمـيـن أو جـزءً كَـبـيـرا مـنـهـم يـكـتُـبـون وَصِـيـتـهـم. هـذا يـعـنـي أنَّ آلاف الـصَّـفَـحـات قـد كُـتِـبَـتْ و هـذا يُـؤَدِّي إلـى كَـثـرة الـكِـتـابـة وبـالـتـالـي إلـى تـطـوُّرهـا.                                         

    ++ حَـديـث كِـتـابـة الـعـلـم: و هـو الـحَـديـث 2026 "الـسِّـلْـسِـلـة الـصَّـحِـيـحـة" للألْـبَـانـي. وهـو حَـديـث يـدعُـو إلـى تَـدويـن الـعُـلـوم كِـتـابـة.                                              

    إضـافـة إلـى هـذا نـجِـد أنّ الـصَّـحـابـة كـانـوا يـهـتـمُّـون بـتَـدويـن الـحَـديـث الـنَّـبـوي و كِـتـابـتـه و أشـهـر مـن قـام بـهـذه الـعـمـلـيـة فـي هـذه الـفَـتـرة هـم :"عـبـد الـلـه بـن عـمـرو بـن الـعـاص" و عـبـد الـلـه بـن عـمـر" و هـمـا صـاحِـبـا "الـصَّـحـيـفـتـيْـن الـصَّـحـيـحـتـيْـن" الـلَّـتـيْـن تـشـكِّـلان عِـمـادَي صَـحـيـحـي الـبُـخـاري و مُـسـلـم. وكـذلـك "عـلـي بـن أبـي طـالـب".                                                                                          

    3= تـصـرُّفـات الـنـبـي مُـحَـمَّـد.

    الـنـبـي مُـحَـمَّـد هـو الـنَّـمُـوذج الَّـذي يَـحْـتَـدي بـه كـلُّ مُـسـلِـم فـي كـلِّ شـيْء. فـفـي سِـيـرة حَـيـاتـه نـجِـد مَـجـمـوعـة مـن الـتـصـرُّفـات فـيـهـا دَعـوة غـيْـر مُـبـاشِـرة لـلإهـتـمـام بـالـكِـتـابـة. مـن بـيْـنـهـا نـذكُـر عـلـى سَـبـيـل الـمِـثـال:                                       

    ++ الإهـتـمـام الـفِـعـلـي بـكِـتـابـة كـل مـا نـزل مـن الـوحـي / الـقُـرآن و لـو بـشـكـل مـتـفـرِّق. فـلـقـد كـان الـنـبـي يُـسـرع دائـمـا فـي إمـلاء مـا نـزَل عـلـى "كُـتـاب الـوحـي" ولـو كـان آيـة فـقـط.

    ++ عُـهـود الـصُّـلـح:فـي كـل مـرة كـان يـعـقـد فـيـهـا اتِّـفـاقـا كـان يـحـرِص عـلـى كِـتـابـتـه. و مـن الأمـثـلـة عـلـى ذلـك نـجـِد:= "صَـحـيـفـة الـمَـديـنـة": وهـي اتِّـفـاقـيـة عـقـدهـا الـنـبـي عـنـدمـا وصـل إلـى الـمَـديـنـة مـن أجـل تَـنـظـيـم الـعـلاقـة بـيْـن الـجَـمـاعـات الّـتـي تـسـكُـن الـمَـديـنـة أي : الـمُـسـلـمـون / الـعـرب غـيْـر الـمُـسـلـمـيـن / و الـيَـهـود. = "صُـلْـح الـحُـديْـبـِيـة" الّـذي عـقَـده مـع سُـكّـان مَـكَّـة سـنـة 6هـ / 628م.                               

    ++ فِـداء أسْـرى "مَـعـركـة بَـدر": مـن أجـل إطـلاق هـؤلاء الأسـرى اشـتـرط الـنـبـي عـلـى كـل أسـيـر يـعـرِف الـقِـراءة و الـكِـتـابـة أنْ يـعـلِّـم ذلـك عـشَـرة مـن أبـنـاء الـمُـسـلـمـيـن لـكـي يُـصـبـح حُـرًّا. و تَـفـضـيـل الأطـفـال فـي هـذه الـعـمـلـيـة فـيـه نَـظـرة مُـسـتـقـبـلـيـة ثـاقِـبـة.  

    ++ الـمُـراسـلات: نـحـن نـعـلَـم أنّ الـنـبـي راسـل مَـجـمـوعـة مـن الـمُـلـوك و الـرُّؤسـاء و زُعـمـاء الـقَـبـائـل. نـذكُـر مـنـهـم: "كِـسْـرى" امـبـراطـور إيـران و "قـيْـصـر" امـبـراطـور" بـِزَنْـطـة و "الـمُـقَـوْقِـس" حـاكِـم مِـصـر و كـذا بـعـض الـمُـلـوك الـعـرب.                        

    ++ سِـجِـلاّت الـزَّكـاة: كـان الـنـبـي حَـريـصـًا عـلـى تَـسْـجـيـل كـل حِـسـابـات الـزَّكـاة و خُـصـوصـا فـي أواخِـر حَـيـاتـه.                                                                  

                                                                     

    خُـلاصـة:الـفَـتـرة الـنـبـويـة هـي مـحـرِّك كـلِّ الـتـطـوُّرات الـتـي سـتـعـرِفـهـا الـكِـتـابـة الـعـربـيـة فـيـمـا بـعـد. و أنّ مـا تـمـت كِـتـابـتـه فـي هـذه الـفـتـرة الـقَـصـيـرة (23 سـنـة فـقـط) هـو أكـبـر بـكَـثـيـر مـمَّـا كـتـبـه الـعـرب مـن قَـبْـلُ فـي كـل تـاريـخـهـم.                                                                      


    ت : الـعَـصْـرُ الـرَّاشِـدِي 10 / 40 هـ // 632 / 661 م

     

    هـو اسـتـمـرار للـفَـتـرة الـنـبـويـة فـي الـتَّـشـجـيـع عـلـى كَـثـرة الـكِـتـابـة. سـوْف نـتـحـدَّث عـن عـهـد أبـي بـكـر ثـم عـمـر ثـم عُـثـمـان.

    ++ عَـهْـدُ أبـي بَـكْـر: 10 / 13 هـ // 632 /634 م

    عـرَف هـذا الـعـهـد أوَّل مُـحـاولـة لـجـمْـع الـقـرآن و تَـنـظـيـمـه عـلـى شـكـل كِـتـاب. جـاء ذلـك بـاقـتـراح و إِلـحـاح مـن عُـمـر بـن الـخـطـاب بـعـد مَـعـركـة مـات فـيـهـا نِـصـف "الـحُـفَّـاظ" الـمُـشـاركـيـن فـيـهـا و لا يـهـمّ إن كـان عـدد هـؤلاء "الـحُـفّـاظ الـشُّـهـداء" سـبـعـيـن أو خـمـسـمـئـة. و لـكـنّ الـمـهـم هـو أنّ الـخـوْف مـن ضَـيـاع الـقُـرآن بـمـوْت الَّـذيـن يـحـفَـظـونـه جـعَـل الـخَـلـيـفـة "أبـا بـكـر" يـقـبَـل الـفِـكـرة بـعـدَ طُـول تـردُّد مـنـه و طـول إلـحـاح مـن عـمـر. و تـزيـد نـفـس الـمَـصـادِر أنَّ تـردُّد "زيْـد بـن ثـابـث"، الَّـذي وقـع عـلـيْـه الإخـتـيـار للـقِـيـام بـهـذه الـمُـهـمـة،  كـان لا يـقـلُّ عـن تـردُّد أبـي بـكـر.                     

    هـذا مـا تَـقُـولـه كُـتـب الـتـراث الَّـتـي تُـضـيـف أنَّ الـجـمْـع كـان كـامِـلا و أنَّ خُـلاصـة الـعـمـل سُـلِّـمَـتْ إلـى "الـسَّـيِّـدة حَـفْـصَـة" زَوجـة الـنـبـي و بـنـت عُـمَـر بـن الـخَـطّـاب.             

     سـأعـود لـكـيْ أعـطـيَ رأيـي فـي هـذه الـنُّـقـطـة بـعـد الـتـطـرُّق إلـى عـهـد عـمـر.

     

    ++ عَـهْـد عُـمَـر بـن الـخَـطَّـاب: 13 / 23 هـ // 634 /644 م

    يُـمـكـنـنـا أنْ نـصِـف هـذا الـعـهـد بـكـوْنـه عـهـد 1= بـِدايـة الـمَـشـاكِـل الـجَـديـدة 2=  و عـهـد  تَـنْـظـيـم الـدَّوْلـة.

    1= بـدأتْ تـظـهَـر الـمَـشـاكِـل عـنـدمـا أصـبـح الـعـرب أقـلـيـة فـي الـدولـة و أصـبـح الـمُـسْـلـمـون غـيْـر الـعـرب هـم الأغـلـبـيـة. هـؤلاء كـانـت لـهـم خِـبـرات كَـبـيـرة فـي تَـنـظـيـم الـدولـة. و لـكـنـهـم كَـمُـسـلـمـيـن جُـدُد كـانـوا لا يـفْـهـمـون شـيْء مـن الـقُـرآن الـمَـصـدر الـوحـيـد لِـديـنِـهـم الـجـديـد.                                                                     

    2= تَـنْـظـيـم الـدَّوْلـة:رُقـعـة الـدولـة أصـبـحـت واسـعـة جِـدًّا و أصـبـحـتْ أغـنـى دَوْلـة فـي الْـعـالَـم. بـالإضـافـة إلـى شَـخْـصِـيَّـة عُـمَـر الـمُـبْـدِعـة، سـيَـبْـدأ تَـنـظـيـم الـدول و سـتـظـهَـر "الإدارات" ( الـدَّوَاوِيـن، الـمُـفْـرد:دِيـوَان) فـتَـمَّ خـلْـق "دِيـوان الـجُـنْـد" و "دِيـوَان الـقَـضـاء" و "دِيـوَان الـبَـريـد" و "دِيـوَان الـعَـطـاء" و .... و قـد فـرَض "عُـمَـر" عـلـى كـل هـذه الإدارات أنْ تـكـون لـهـا سِـجـِلاّت و دَفـاتِـر. كـل هـذا جـعَـل الـكِـتـابـة تـكـثُـر فـي هـذا الـعـصـر.               الـخَـلـيـفـة عـمـر بـن الـخـطـاب أبـان، طـيـلـة مُـدّة حـكـمـه، عـن فـلـسـفـة تَـشـريـعـيـة خَـلاّقـة و عـن حـرص شَـديـد لا يُـوصـف عـلـى الـدِّيـن و الـمَـصـالِـح الـعـامـة.                  

    هـذه الـشـخـصـيـة الـتـي تُـبـهـر حـتـى غـيْـر الـمُـسـلـم، تُـريـدنـا الـمَـصـادِر الـتُّـراثِـيـة أنْ نـصـدِّق أنَّـهـا فـعـلـتْ كـلَّ شـيْء حـتـى تُـقـنـع أبـا بـكـر بـضَـرورة جـمْـع الـقـرآن وعـنـدمـا حـكـمـتْ لـعـشْـر سـنـوات لـم تـقُـم حـتـى بـِمـجـرّد اسـتـنـسـاخ و نـشـر لـذلـك الـمُـصـحـف الـمَـجـمـوع. هـاتـه الـمُـلاحـظـة تـجـعـلـنـا نـشـكُّ فـي صـحـة الـرِّوايـات الـتـي تـتحـدّث عـن الـجـمـع فـي عـهـد أبـي بـكـر. أضـفْ إلـى ذلـك أنَّ إصـرارهـا عـلـى أنّـه كـان كـامِـلاً يُـفـرغ عـمـل الـخَـلـيـفـة عـثـمـان مـن مَـضـمـونـه.                                                      

     

    ++ عَـهْـد " عُـثْـمـان بْـنُ عَـفَّـان": 23 / 35 هـ // 644 /656 م

    أصـبـحـتْ الـدوْلـة الإسـلامـيـة تـمـتـدُّ عـلـى رُقـعـة جُـغـرافـيـة كَـبـيـرة جِـدًّا. و أصـبـح الـمُـسـلِـمـون غـيْـر الـعـرب أكـثَـر بـِكَـثـيـر مـن الـعـرب. و أمـام كَـثـرة مـوْت الـنـاس الَّـذيـن كـانـوا يـحـفَـظـون الـقـرآن. بـدَأ الـخـوْف عـلـى ضَـيَـاع الـقُـرآن بـسـبـب ذلـك. فَـكـان لابُـدَّ مـن فـعـل شـيء مـن أجـل الـحِـفـاظ عـلـى الـقُـرآن. الـخَـلـيـفـة "عُـثْـمـان"، وَ هُـوَ نَـفْـسُـه مـن " كُـتَّـاب الـوَحْـي"، سـيـكـلِّـف لَـجـنـة عِـلـمـيـة مـن مَـجـمـوعـة مـن " الـصَّـحـابَـة مِـمَّـن كَـتَـبُـوا الْـوَحْـيَ" فـي زَمَـنِ الـنَّـبـِي لـكـي تَـجـمَـع الـقُـرآن فـي شـكْـل كِـتـاب. رَئـيـس هـذه الـلَّـجـنـة كـان هـو " زَيْـدُ بْـنُ ثَـابـِث الأنْـصَـارِي". بـعـد سـنـتـيْـن مـن الـعـمـل سـيـظـهَـر الـقُـرآن عـلـى شـكـل كِـتـاب و هـنـا ظـهَـرتْ كَـلِـمـة "الـمُـصْـحَـف" الَّـتـي تَـعـنـي الـقُـرآن مَـكـتـوبـا عـلـى الـصُّـحُـف (صَـفَـحـات) ومـنـظَّـم عـلـى شـكْـل كِـتـاب.                                          

    هـذه الـلَّـجـنـة كـتـبـتْ سِـتَّ نُـسَـخٍ مـن الـقُـرآن / الـمُـصْـحَـف و أرسـل الـخَـلـيـفـة نُـسْـخـة لِلْـمُـدُنِ الـخَـمْـسِ الـكُـبـرى فـي ذلـك الـوقـت و هـي : الـبَـصْـرة و الـكُـوفَـة فـي جَـنـوب الـعـراق، دِمَـشـق فـي سُـوريـا، نُـسـخـة لـمَـكَّـة و نُـسْـخَـة للـمَـديـنـة. و الـنُّـسْـخـة الـسَّـادِسـة إحـتـفـظ بـهـا الـخَـلـيـفـة "عُـثْـمـان" لِـنـفـسـه و هـي الـنُّـسـخـة الـمَـعـروفـة فـي الـتّـاريـخ بـِ "الـمُـصْـحَـفُ الإمـام".                                                                            

    مـن هـذه "الـمَـصـاحِـف الـعُـثـمـانـيـة" سـتَــتِـمُّ كِـتـابـة آلاف الـنُّـسـخ. و مَـلايـيـن الـمَـصـاحِـف الـمَـوجـودة الآن فـي الـعـالَـم هـي مَـنـقـولـة مـن الـنُّـسَـخ الـسِّـتـة.                              

     إلـى يـومـنـا هـذا، لازالـتْ أربـع نُـسَـخٍ مـن الـمَـصـاحِـف الـعُـثـمـانـيـة مَـوْجـودة: الأولـى فـي مَـتـحـف "سَـان بـتـرسـبـورغ" فـي رُوسْـيـا، و الـثَّـانـيـة فـي مَـتـحـف "طُـوب كَـابـي" فـي إِسْـتَـنْـبُـول فـي تُـرْكـيـا، و الـثـالِـثـة فـي الـمَـتـحـف "الإسْـلاَمـي" بـالـقـاهِـرة فـي مِـصْـر، و الـرابـِعـة فـي أحـد مَـسـاجِـد "طَـشْـقَـنْـد" عـاصِـمـة أوزْبـاكِـسْـتـان. و نـحـن نـعـرِف أنَّ نُـسـخـة دِمَـشْـق قـد إحـتـرقـتْ فـي الـمَـسْـجـد الأمـوي. أمَّـا الـنُـسـخـة الـسَّـادِسـة فـلا أحـد يـعـرِف عـنـهـا شـيْء.                                                                                     

     

    إنّ فِـكـرة جـعْـل الـقُـرآن فـي كِـتـاب و تَـدويـنـه بـطَـريـقـة مُـوحَّـدة هـي ثـوْرة ثَـقّـافـيـة حَـقـيـقـيـة خُـصـوصـا إذا نَـظـرنـا إلـيْـهـا مـن حـيْـثُ نَـتَـائـجُـهـا عـلـى الـثَّـقـافـة و الـكِـتـابـة الـعـربـيـة.                                                                                        

     

    ج: الـمَـرحـلـة الإسـلامـيـة: نُـصُـوصٌ وَ خُـلاَصَـاتٌ

    ++ لَـوَحـات و نُـصُـوص 

    1= رِسـالـة مَـنـسـوبـة إلـى الـنَّـبـي مُـحَـمَّـد. جـاء فـيـهـا :" بـسـم الله الـرحـمـن الـرحـيـم. مـن مـحـمـد رسـول الله إلـى جـعـفـر و عـبـد إبـنـي الـجـلـنـدي. سـلام عـلـى مـن إتَّـبـع الـهـدى. أمَّـا بـعـد. فـإنّـي أدعـوكـمـا بـدعـايـة الإسـلام. أسـلـمـا تـسـلـمـا. و إنـي رسـول الله إلـى الـنـاس كـافـة لأنـذر مـن كـان حـيـا. و يـحـق الـقـول عـلـى الـكـافِـريـن. فـإنـكـمـا إن أقـررتـمـا بـالإسـلام ولـيـتـكـمـا. وإن أبـيـتـمـا فـإن مـلـكـكـمـا زائـل  وخـيـلـي ...كـل سـاحـتـكـمـا. و تـظـهـر نـبـوءتـي عـلـى مـلـكـكـمـا."                                                             

     

     2= شـاهِـدة قَـبْـر "عـبـد الـرَّحْـمـان بـن خَـيْـر الْـحِـجْـري" 31 هـ /652 م. جـاء فـيـهـا :" بـسـم الله الـرحـمـن الـرحـيـم . هـذا الـقـبـر لـعـبـد الـرحـمـن بـن خـيْـر الـحـجـري. الـلـهـم اغـفـر لـه و أَدخـلـه فـي رحـمـة مـنـك و إنّـنـا مـعـه. إسـتـغـفـر لـه إذا قـرأ هـذا الـكـتـاب و قـل آمـيـن. كُـتـب هـذا الـكـتـاب فـي جـمـادى الأحـد مـن سـنـة إحـدى و ثـلاثـيـن"                   

     3= مُـصْـحَـف مَـنـسـوب إلـى الإمـام "عَـلِـي بْـن أبـِي طـالِـب": سـورة 15 (الـحِـجْـر)  مـن   مـنـتـصـف الآيـة 17-27 " مـن كـل شـيـطـان رجـيـم (17) إلا مـن اسـتـرق الـسـمـع فـأتـبـعـه شـهـاب مـبـيـن(18) و الأرض مـددنـاهـا و ألـقـيـنـا فـيـهـا رواسـي و أنـبـتـنـا فـيـهـا مـن كـل شـيء مـوزون(19) و جـعـلـنـا لـكـم فـيـهـا مـعـايـش و مـن لـسـتـم لـه بـرازقـيـن(20) و إن مـن شـيء إلا عـنـدنـا خـزائـنـه و مـا نـنـزلـه إلا بـقـدر مـعـلـوم(21) و أرسـلـنـا الـريـاح لـواقـح فـأنـزلـنـا مـن الـسـمـاء مـاء فـأسـقـيْـنـاكـمـوه و مـا أنـتـم لـه بـخـازنـيـن (22) و إنـا لـنـحـن نـحـيـي  و نـمـيـت و نـحـن الـوارثـون(23) و لـقـد عـلـمـنـا الـمـسـتـقـدمـيـن مـنـكـم و لـقـد عـلـمـنـا الـمـسـتـأخـريـن(24) و إن ربـك هـو يـحـشـرهـم إنـه حـكـيـم عـلـيـم(25) و لـقـد خـلـقـنـا الإنـسـان مـن صـلـصـال مـن حـمـإ مـسـنـون(26) و الـجـان خـلـقـنـاه مـن قـبـل مـن نـار الـسـمـوم(27) و إذ ... "                                                                     

     

     4= مُـصْـحَـف مُـطـابق للـرسـم الـعـثـمـانـي بـدون إعـجـام و لا حـركـات: س 7 (الأعـراف) الآيـة 86-87 : " ...الله مـن آمـن بـه و تـبـغـونـهـا عـوجـا و اذكـروا إذ كـنـتـم قـلـيـلا فـكـثـركـم و انـظـروا كـيـف كـان عـاقـبـة الـمـفـسـديـن(86) و إن كـان طـائـفـة مـنـكـم آمـنـوا بـالـذي أرسـلـت بـه و طـائـفـة لـم يـومـنـوا فـاصـبـروا حـتـى يـحـكـم الله بـيـنـنـا....."                                                                  

    ++ خُـلاصـات و اسـتـنـتـاجـات

    1= لـيـسـتْ هـنـاك إخـتـلافـات كَـبـيـرة بـيْـن الـكِـتـابـة قـبْـل و بـعْـد الإسـلام.                 

     2= بـعـض الـحُـروف أصـبـحـتْ واضِـحـة و أخـذت شـكـلـهـا شـبـه الـنـهـائـي بـفَـضْـل كَـثـرة الـكِـتـابـة.                                                                                       

     3= لازالـت الـكـتـابـة الـعـربـيـة بـدون نـقـط الإعـجـام تـخـتـلـط فـيـهـا الـحُـروف عـلـى غـيْـر الـمـتـمـرِّس.                                                                                     

     4= لازالـت أيـضـا كِـتـابـة صـامـتـة بـدون مـصـوِّتـات (حَـرَكـات).                                  5= الـتـاء الـمَـربـوطـة مَـوجـودة و لـكـنـهـا لا زالـت بـدون نـظـام. فـفـي نـفـس الـنـص نـجـد نـفـس الـكـاتـب يـرسُـمـهـا مـرة مَـربـوطـة و مـرة مـبـسـوطـة.

    6= الألـف الـطـويـلـة فـي وسـط الـكـلـمـة لا تُـكْـتَـب فـي الأغـلـب و إن كـانـت مَـوجـودة بـكـثـرة فـي الـرسـالـة الـمـنـسـوبـة إلـى الـنـبـي.

    7= فـي نـفـس الـنـص بـنـفـس الـخـط نـجـد نـفـس الـحـروف مـرة بـشـكـل واضـح يـسـهِّـل الـقِـراءة و مـرة بـشـكـل يـقـلُّ وضـوحـا مـمـا يـجـعَـل الـقِـراءة أصـعـب. و هـذا يـدُلُّ عـلـى أنّ بـعـض الـحـروف لا زالـت بـدون رسـم نِـهـائـي.

    8= حـرفـا الـراء و الـزاي لا زالا يُـكـتـبـان كـلـيـا فـوق الـسـطـر و بـشـكـل مُـحْـدَوْدَب مِـمّـا يـجـعـلـهـمـا يـشـبـهـان الـدال و الـذال عـنـدنـا الآن.

    9= الـمـيـم فـي آخـر الـكـلـمـة تُـكْـتـب تَـقـريـبـا غـيْـر مـذيَّـلـة و فـي بـعـض الـمـرّات تُـكْـتَـبُ مـذيَّـلـة تَـذيـيـلا خَـفـيـفـا و قَـصـيـرا ولـكـن فـوق الـسـطـر.

     10= الـهـمـزة لا زالـت حـرفـا شـبـحـا لا شـكـل لـه فـي الـكِـتـابـة. فـفـي كـل مـرة نـجـد فـقـط سـنـده كـمـا نـكـتـبـه الـيـوم أي الألـف أو الـواو أو الـيـاء. و جـاء هـذا الـحـرف أكـثـر مـن مـرة فـي آخـر الـكـلـمـة مـسـبـوقـا بـمـد أي حـسـب قـواعـد الـيـوم كـان يـجـب أن يُـكـتـب عـلـى الـسـطـر إلا أنـه لـم يـكـتـب: مِـثـال: "الـسـمـاء مـاء" كُـتِـبَـتْ هـكـذا : " الـسـمـا مـا "

    11= حـروف الـحـاء و الـخـاء و الـجـيـم جـاءت فـي مـخـتـلـف الـوثـائـق مـكـتـوبـة تـحـت حـرف آخـر فـي مـجـمـوعـة مـن الـكـلـمـات مـثـل:"مـحـمـد" "يـحـق" "لـواقـح" "بـخـازنـيـن" " نـحـن" نـحـيـي" " و الـجـان". و هـاتـه الـعـادة لا زالـت مَـوجـودة و مَـحـبـوبـة عـنـد بـعـض الـنـاس إلـى يـومـنـا هـذا.  

    12= كَـثـرة الإسـتـنـسـاخ مـن "الـمَـصـاحِـف الـعُـثْـمـانـيـة" أدَّى إلــى بـِدايـة ظُـهـور الـكِـتـابـة الـسَّـريـعـة بـاسـتـدارات واضـحـة فـي حـروفـهـا و تـراجـع الـزَّوايـا الـقـائـمـة و الـحـادّة فـي مُـعـظـم الـحـروف.


    من تاريخ الكتابة العربية 2


    من تاريخ الكتابة العربية 2


    من تاريخ الكتابة العربية 2


                  - تم القسم الثاني ويليه القسم الثالث في عدد قادم -


    زكرياء قاسم وعلي 21-01-2012 - بروكسيل - بلجيكا                                                                           

                              

     

     

     

     

     

     

     

     


    [1]  هـي كـذلـك عـنـد حَـفْـص بَـيْـنـمـا فـي رِوايـة وَرْش هـي الآيـة 280

     

     

     

     

     

     

     

    أعلى الصفحة

        21 visiteurS 
       
    sounnif@gmail.com
    Previous Tab                     للمشاركة إضغط هنا                      Next Tab
     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     لانا راتب المجالي

    بروكسيل الأدبية ترحب بكل إبداعاتكم

    bruxellesaladabiya@gmail.com

     

    1 visiteur actuellement sur le site
    Partager via Gmail

    1 تعليق
  • بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
      من تاريخ اللغة العربية 1
      زكرياء قاسم وعلي
     
     

     

     هـذه مـجـمـوعـة مـن الـمـقـالات ألـقـيـتْ عـلـى طـلـبـة الـسـنـة الأولـى مـاجسـتيـر شـعـبـة الـلـغـة الـعـربـيـة و الـتـرجـمـة فـي درس الـلـسـانـيـات الـتـزمُّـنـيـة / الـديـاكـرونـيـة خـلال الـسـنـوات الـثـلاثـة الـمـاضـيـة. أتـطـرَّق فـيـهـا لـمـجـمـوعـة مـن الـمـواضـيـع تـهـمّ تـاريـخ لـغـة الـضـاد    كـالـكـتـابـة و الـنـحـو و جـمْـع الـلـغـة.  وقـد ارتـأيْـتُ نـشْـر أجـزاء مـن هـذه الأبـحـاث عـلـى صـفـحـات مَـجـلـتـنـا تَـعـمـيـمـا للـفـائـدة و إثـراء للـنِّـقـاش. و سـتـكـون الـبـِدايـة مـع تـاريـخ الـكِـتـابـة. و اللـه ولـي الـتَّـوفـيـق.

    مـن تـاريـخ الـكِـتـابـة الـعـربـيـة.

    فـي بـحـثـنـا عـن أصـل الـكِـتـابـة الـعـربـيـة يُـمـكـنـنـا الـحَـديـث عـن مُـقـارَبـتـيْـن إثـنـتـيْـن: الأُولـى هـي مُـقـاربـة أُسـطـوريـة لـيْـسـت لـهـا أيـةُ قِـيـمـة عِـلـمـيـة. و الـثـانـيـة هـي مُـقـاربـة عِـلـمـيـة تـاريـخـيـة أثـريـة. وسـنـبـدأ بـمـا تـقـولـه الأسـطـورة بـاعـتـبـارهـا الأقـدم زمـنـيـا :

    أ= أصـل الـكِـتـابـة الـعـربـيـة مـن خـلال الأسـطُـورة و الإخـبـاريـيـن.

    تـكـاد تـخـتـصـر هـذه الـمُـقـاربـة تَـفـسـيـرهـا لأصـل الـكِـتـابـة الـعـربـيـة بـقـوْلـهـا " إنّـهـا وحـي مـن اللـه". و هـو "تَـفـسـيـر" يـؤوِّل آيـتـيْـن قـرآنـيـتـيْـن مـن سـورة الـبـقـرة لـيْـس إلاّ.   
    + الآيـة 31:" وَ عَـلَّـم آدَمَ الأَسْـمَـاءَ كُـلَّـهَـا ثُـمَّ عَـرَضَـهُـمْ عَـلَـى الـمَـلاَئِـكَـةِ"
    + الآيـة 33:" قَـالَ يـا آدَمُ أَنْـبـِـئْـهُـمْ بـِأَسْـمـائِـهِـمْ"
     لـن نـدخُـل فـي نِـقـاش حـوْل صِـحـة هـذا الـتَّـأويـل أو عـدم صـحـتـه و نـكـتـفـي بـالـقـوْل إن مَـفـهـوم الـوحـي الإلـهـي الَّـذي أنـتـج الـكِـتـابـة لا يـدخُـل فـي سِـيـاق الـعـلـم لـسـبـب بَـسـيـط هـو عـدم إمـكـانـيـة دِراسـتـه.  
    هـذه الـمُـقـارَبـة الّـتـي تـجـعَـل الـكِـتـابـة الـعـربـيـة ذات مَـصـدر خـارجـي غـيْـر إنـسـانـي، نـجـدهـا فـي كِـتـابـات مَـجـمـوعـة مـن إخـبـاريـيـنـا وأهـمـهـم:                                 
     1 = الـقَـلْـقـشـنـدي فـي كِـتـابـه " صُـبْـحُ الأَعْـشَـى فـي صِـنـاعـة الإنـشـاء" ج3 ص 10 يـدَّعـي أنّ آدم هـو أول مـن كـتَـب بـالـعـربـيـة.
    2 = ابـن عـبـد ربـه الأنـدلـسـي فـي كِـتـابـه " الـعِـقْـدُ الـفَـريـد" ج3 ص157 يـزعُـم أنّ الـنـبـي إدريـس هـو أول مـن كـتَـب بـالـعـربـيـة. ثـم يـعـود، أسـطُـرا بـعـد ذلـك، لـيـقُـول إنّ الـنـبـي إسـمـاعـيـل هـو أول مـن كـتَـب بـالـعـربـيـة.                         
    3 = مـحـمـد بـن جَـريـر الـطَـبَـري فـي كِـتـابـه" تـاريـخ الـرُّسُـلِ و الـمُـلُـوكِ" الـمَـعـروف أيـضـا تـحـت عِـنـوان " تـاريـخ الأُمَـمِ و الـمُـلُـوكِ" ج1ص167 يـزعُـم أنّ وّخْـنُـوخ ( إنُـوخ؟) هـو أول مـن كَـتَـب بـالـعـربـيـة.                                                     
    يـكـاد يـكـون هـذا كـل مـا يـقُـولـه الإخـبـاريـون عـن أصـل الـكـتـابـة الـعـربـيـة و إن اخـتـلـفـت الـدِيـبـاجـة إسـهـابـا أو إيـجـازا. و زعـمـهـم هـذا يُـثـيـر انـتـبـاهـنـا مـن جـانِـبـيْـن:
     الأوّل: هـو كَـوْن الـسـؤال الَّـذي يَـطـرَحـونـه (أول مـن كـتـب بـالـعـربـيـة) سـؤال لا مَـعـنـى لـه بـحـكْـم أنّ الـكِـتـابـة لا يُـمـكـن أنْ تـكُـون مـن إخـتـراع إنـسـان واحـد حـتـى و إنْ كـان نـبـيـا.
     والـثـانـي: هـو كـوْن الـتـضـارُب فـي الآراء راجـع إلـى ضُـعـف الـنـقـد الـتـاريـخـي فـي كِـتـابـاتـهـم. فـهـم يُـعـطـون الـخـبـر كـمـا نُـقِـلَ إلـيْـهـم دون أدنـى تَـحـقـيـق أو تَـدقـيـق. و كـمـا يـشـهَـد بـذلـك الـطَّـبـري شـيْـخ الـمـؤرِّخـيـن و إمـام الـمـفـسِّـريـن عـنـدمـا يَـقـول بـوضـوح يـغـنـي عـن أي شـرْح أو إضـافـة :" وقَـدْ أدَّيْـنَـاهُ (الـخَـبَـر) إِلَـيْـكَ كَـمَـا أُدِّيَ إِلَـيْـنَـا"

    ب= أصـل الـكِـتـابـة الـعـربـيـة مـن خـلال الـنُّـقـوش الأثَـريـة.

    لـم تـبـدَأ الـبُـحـوث الأثـريـة حـوْل هـذا الـمَـوضـوع إلاّ فـي الـقـرن الـتـاسِـع عَـشـر الـمِـيـلادي. و مـن خـلال الـدراسـات الَّـتـي أُجـريَـت نـجـد أنّ بـلاد الـعـرب عـرفـت نـوعـيْـن مُـتـبـايـِنـيْـن مـن الـكِـتـابـة. الأول يُـعْـرَفَ بـِ "الـخَـطِّ الـجَـنُـوبـي" و الـثـانـي يُـعْـرَفُ بـِ"الْـخَـطِّ الـشَّـمـالـي". فـمـا هـي الـمُـمـيِّـزات الـخـاصـة لـكـلٍّ مِـنـهـمـا؟ و مـن مـنـهـمـا هـو أصـل لـلـكِـتـابـة الـعـربـيـة؟

     ++  الْـخَـطُّ الـجَـنُـوبـي: خَـصَـائِـصُـهُ و مُـمَـيِّـزَاتُـهُ. 

      هـو مَـجـموعـة مـن الـخُـطـوط الـمُـتـشـابـِهـة. أشـهـرهـا هـو الـخـط الْـحِـمْـيَـرِي. وهـو خـط اسـتـعـمـلـه سـكـان جـنـوب بـلاد الـعـرب لأكـثـر مـن ألـف سـنـة فـي الـيـمـن وغـرب عُـمـان وجـنـوب الـسـعـوديـة حـالـيـا. أمـا خَـصـائـصـه فـيُـمـكـن إجـمـالـهـا فـيـمـا يـلـي:

    1 = حُـروفـه مُـنـفـصِـلـة غـيـر مُـتَّـصِـلـة: أَيْ أنَّ كـلـمـة "مُـحَـمَّـد" مـثـلا فـي هـذه الـكِـتـابة سـتـكـون هـكذا"م ح م د". إنّ هـذا الإنـفـصـال فـي الـحـروف يـطـرَح مُـشـكِـلة كَـبـيرة بـحـيْـث تـصـعُـب مـعـرِفـة أيْـن تـبـتـدأُ الـكـلـمـة و أيْـن تـنـتـهـي. و لا نـبـالـغ إذا قُـلـنـا إنّ ذلـك يـكـاد يَـسـتـحـيـل عـلـى عـامـة الـنـاس. إحـسـاسـا بـهـذه الـمُـشـكـلـة بـدَأ عـرب الـجـنـوب  فـي فَـتـرات تـاريـخـيـة مـتـأخِّـرة يـضَـعـون خـطا مائلا ( / ) حـتـى يـفـصِـلـوا بـيْـن كَـلـمـة و أُخْـرى.
    2 = حـرف الـراء هـو الـحـرف الـوَحـيـد الَّـذي يُـشـبـه الـحُـروف الـعـربـيـة الـحـالـيـة. و هـو شـيء يـجـعَـلـنـا نـفـهَـم مـا يُـقَـالُ و لا نـفـهَـم مـا يُـكْـتَـبَ.(امـرئ الـقـيـس مـثـلا)
    3 = لـيْـس لـهـذا الـخـطِّ اتِّجـاه واحـد فـي الـكِـتـابـة. فـهـو يُـكْـتَـبُ مـن الـيـمـيـن إلـى الـيـسـار وعـنـد الـرُّجـوع إلـى الـسـطـر يـخـتـلـف اتِّـجـاه الـكِـتـابـة لـيُــصْـبـِـحَ مـن الـيـسـار إلـى الـيـمـيـن. و فـي بـعـض الـنُّـقـوش نـجـد اتِّـجـاه الـكـتـابـة مـن الأعـلـى نـحـو الأسـفـل. وكـل هـذا يـجـعـل مـن الـصـعـب الـقـبـول بـه كـأصـل للـكِـتـابـة الـعـربـيـة.                    
    4= الـخـط الـحِـمْـيَـري يـتـكـوَّن مـن 29 حـرفـا  تُـكْـتَــبُ فـيـه الـصَّـوامِـتُ بـدون الـحـركـات الـقَـصـيـرة.
    و عـنـد إنـهـيـارات سـد " مَـأْرِب" فـي الـيـمن، هاجَـر الـنـاس، عـلـى شـكـل مَـوجات بـشـرية، إلـى شَـمال بـلاد الـعـرب. و قـد إسـتـقـرّ جـزء كَـبـيـر مـنـهم فـي يَـثْـرِبِ (الـمَـديـنة).
    الـمـؤرِّخ الـكَـبـيـر ابـن خـلـدون الَّـذي زار هـذه الـمَـنـطـقـة خِـلال رِحـلـتـه شـرقـا و غـرب (1354 /1355م ) يـقـول " كَـانَ بـالِـغـا مَـبْـلَـغَـهُ مِـنَ الإحْـكَـامِ و الإتْـقـانِ و الْـجَـوْدَةِ فـي دَوْلَـةِ  الـتَّـبَـابـِعَـةِ لِـمَـا بَـلَـغَـتْـهُ مِـنَ الـحَـضـارة وَ الـتَّـرَفِ و هـو الـمُـسَـمَّـى بـالـخَـطِّ الـحِـمْـيَـري" 
     

     بـيْـن الـسُّـريـانـيـة و الـعـربـيـة

    لـكـونـهـمـا مـن نـفـس الـمَـجـمـوعـة الـلُّـغـويـة (الـسـامـيـة)، يـوجـد تـشـابُـه كَـبـيـر بـيْـن هـاتـيْـن الـلُّـغـتـيْـن. و بـمـا أنّ مـا يـهـمـنـا فـي هـذا الـبـحـث هـي الـخَـصـائِـص الـمُـشـتـرَكـة بـيْـن الـخـطـيْـن / الـكـتـابـتـيْـن، فـإنَّـنـا سـنـتـوقَّـف قَـلـيـلا عـنـدهـا (الـخـصـائـص) لِـنـجـد:
                                          
    1 = كـلُّ حـرف فـي الـسُّـريـانـيـة لـه ثـلاثـة أشـكـال مُـخـتـلِـفـة قَـلـيـلا فـي الـكِـتـابـة حـسـب مَـوقِـعـه فـي أوَّل، وسـط، أو آخِـر الـكـلـمـة. و هـو نـفـس الـشـيء فـي الـعـربـيـة.

    2 = حُـروف: الـدال و الـراء و الألـف و الـواو ( د/ر/ا/و ) لا تـرتـبـط مـن جِـهـة الـيـسـار بـبـاقـي الـحـروف. نـفـس الـشـيء نـجـده فـي الـعـربـيـة.
    3 = حـرف الـبـاء و الـجـيـم و الـدال و الـكـاف و الـنـون و الـعـيـن و الـفـاء و الـصـاد، تُـكْـتَـبُ بـنـفـس الـطَّـريـقـة فـي الـخـطـيْـن.
    4 = بـاقـي الـحُـروف فـي الـخـطـيْـن تـخـتـلـف تـمـامـا عـن بـعـضـهـا.
    الإنـتـبـاه إلـى الـتـشـابـه بـيْـن الـكـتـابـتـيْـن لـيْـس وَلـيـد الـيـوْم فـقـط بـل هـنـاك مـن الـقُـدامـى مـن لاحـظ شِـدة الـشـبـه بـيْـن الـخـطـيْـن. فـهـذا الإخـبـاري الـبَـلاَذِري ( ت 279 هـ/ 893 م) فـي " فُـتُـوح الـبُـلْـدَان" ق3 ص 579 يـقُـول:" إِنَّ الـقَـلَـمَ (الـخـط) الـعَـرَبـِي الـشَّـمَـالِـي قَـدْ قِـيـسَ عَـلَـى هِـجَـاءِ (حُـروف) الـسُّـرْيَـانِـيِّـةِ". وَ إذا كـان الـبـلاذري فـي هـذه الـمُـلاحـظـة لا يـنـطـلِـق مـن أيـة حُـمـولـة إيـديـولـوجـيـة، فـإن الـبـاحِـثـيـن الـمُـحـدثـيـن، خُـصـوصـا بـاحِـثـو الـقـرن الـتـاسـع عـشـر، يـتـوقَّـفـون عـنـد نـفـس الإسـتـنـتـاج لأسـبـاب إيـديـولـوجـيـة مـحـظـة، أولـهـا إرتـبـاط الـسـريـانـيـة بـالـمَـسـيـحـيـة. و هـم بـالـتـالـي يـرفُـضـون الـبـحـث فـي الآرامـيـة و فَـصـيـلـهـا الـنـبـطـي.  

     بـيْـن الـنَّـبَـطِـيَّـة و الـعـربـيـة

    الـنـبـطـيـة كَـخـط يـنـحـدِر مـن الـكِـتـابـة الآرامـيـة فـهـو قـد تـطـوَّر مـنـهـا فـي الـقـرن الـثـانـي قـبـل الـمِـيـلاد. و فـي الـقـرن الأول قـبـل الـمِـيـلاد بـدأ يـسـتـقـلُّ بـنـفـسـه و يـأخُـذ مـمـيِّـزاتـه الـخـاصـة بـه. مـن خـلال الـنُـقـوش الأثـريـة الـنـبـطـية الَّـتـي تَـزيـد عـلـى ثـلاثـة آلاف نـقـش نـسـتـخـلـص الـمـمـيِّـزات الآتـيـة: 

    1 = الـنـبـطـيـة تُـكْـتَـبُ دائـمـا مـن الـيـمـيـن إلـى الـيـسـار مـثـل الـعـربـيـة.

    2 = الـنـبـطـيـة فـيـهـا إثـنـان و عِـشـرون حـرفـا كـلـهـا مَـوجـودة فـي الـعـربـيـة كـذلـك.

    3 = الـحُـروف الـمُـتَّـصِـلة وغـيـر الـمـتـصـلة مـن جِـهة الـيـسار هـي نـفـسـها فـي الـكـتـابـتـيْـن.

    4 = الألـف فـي بـعـض الأسـمـاء و الـكـلـمـات تـسـقُـط و لا تُـكْـتَـبُ فـنـجـد مـثـلا: "حـرث" بـدَلا مـن "حـارث". نـفـس الـظـاهـرة مَـوجـودة فـي الـعـربـيـة.

    5 = تـاء الـثَّـأنـيـث الـمـربـوطـة تُـكْـتَـبُ مَـبـسـوطـة: أي "زوجـت" بـدلا مـن "زوجـة". نـفـس الـظـاهـرة نـجـدهـا فـي الـعـربـيـة.

    6 = غِـيـاب نُـقـط الإعـجـام فـحـروف مـثـل: بـ / تـ / ثـ / نـ / يـ  تُـكْـتَـبُ بـدون نُـقـط  و هـو شـيء نـجـده فـي الـعـربـيـة.

    7 = حـرف لا (لام ألف) غـيـر مَـوجـود فـي الـنـبـطـيـة. فـي الـعـربـيـة تـأخَّـر كَـثـيـرا ظُـهـور هـذا الـحـرف.

    8 = الـتَّـعـريـف بـ "اَلْـ " مَـوجـود فـي الـنـبـطـيـة و الـعـربـيـة.

     مـن هـم الأنـبـاط؟

    الأنـبـاط هـم عـرب رُحَّـل عـاشـوا فـي جَـنـوب الـعـراق و جَـنـوب سُـوريـا و فـي شَـمـال الـسَّـعـوديـة، و فـي الأردن و فـلـسـطـيـن و شـبـه جَـزيـرة سـيـنـاء. احـتـرفـوا الـزِراعـة و الـتِّـجـارة لـكـونـهـم فـي مُـلـتـقـى الـطُّـرق الـتـجـاريـة الـعـالـمـيـة فـي ذلـك الـوقـت و الَّـتـي سـيْـطـروا عـلـيـهـا تَـمـامـا إبـتـداءً مـن مُـنـتَـصـف الـقـرن الـرابـِع قـبـل الـمِـيـلاد. و مـا بـيْـن الـقـرن الـثـانـي قـبـل الـمِـيـلاد و الـقـرن الـثـانـي بـعـد الـمِـيـلاد ( أربـعـة قُـرون) كـانـت لـهـم دولـة قَـويـة جـدا سـيْـطـرت عـلـى طُـرق الـقَـوافِـل الـقـادِمـة مـن صَـنْـعَـاء و مَـكَّـة و يَـثْـرِب ( الـمَـديـنـة) و كـذلـك مـن الـعـراق. وحَـكَـمـت مَـدَائِـن صَـالِـح و دِمَـشْـق. بَـنَـتْ مَـدِيـنـة الـبَـتْـرَاء. و قـد حـافَـظ هـذا الـشـعـب عـلـى رَوابـِط قـويـة مـع عـرب الـجَـزيـرة. و إنْ كـنـا غـيـر مـتـأكِّـديـن مـن أنَّ الأنـبـاط هـم حـقـا مـن بَـنَـى مَـديـنـة بـابـِل فـإنَّـنـا مُـتـأكِّـدون مـن أنَّـهـم هـم الَّـذيـن بَـنَـوْا أَرْوَعَ مِـعـمـار عـربـي عـلـى الإطـلاق و هـو مَـدِيـنـة " الْـبَـتْـرَاء " و هـي مَـديـنـة تُـوجـد فـي الأردن، سَـبـعـيـن كِـيـلـومـتـرا جَـنـوب الـبـحـر الـمَـيَّـت، و هـي عِـبـارة عـن مَـديـنـة مَـنـحـوتَـة داخِـل جـبـل. و قـد تـحـدّث الـقـرآن عـنـهـم وعـن مَـديـنـتـهـم فـي سـورة 26 (الـشُّـعَـراء) آيـة 149 و عـاب عـلـيْـهـم كَـثـرة الـتَّـرَف بـقـولـه: " وَ تَـنْـحِـتُـونَ مِـنَ الـجِـبَـالِ بُـيُـوتًـا فَـرِهِـيـنَ " أيْ دُونَ الـحـاجـة إلـيْـهـا و لـكـن فـقـط بـِدافِـع الإفـتـخـار. و مـنهـم قـوْم الـنـبـي هُـود و صـالِـح الـمَـذكـوريـن فـي الـقـرآن. إنّ مُـمـارَسـة الأنـبـاط للـتِّـجـارة الَّـتـي تـحـتـاج إلـى تَـسـجـيـل الـبـيْـع و الـشـراء و الـقُـروض، و تَـأسـيـس دُوَل تـحـتـاج إلـى دَفـاتِـر و سِـجـلات للـمَـداخـيـل و الـمَـصـاريـف و الـقـوانـيـن، بـالإضـافـة إلـى مُـخـالَـطـة شُـعـوب مُـتـقـدِّمَـة، كـلُّ هـذا سـاعَـد هـذا الـشـعـب الـعـربـي لـكـي يـكُـون بـحـق أوَّل شـعـب عـربـي كَـتـب فـي شَـمـال الـجَـزيـرة.

    إنّ كـلَّ مـا رأَيْـنـاه مـن تـشـابُـه، يـصـل حـد الـتـطـابـق، بـيـن الـكِـتـابـة الـنـبـطـيـة و الـعـربـيـة تـعـزِّزه الـنُّـقـوش الأثـريـة الـعـربـيـة الَّـتـي هـي مَـوضـوع الـفـقـرة الـتـالِـيـة.

    ت = الـنُّـقُـوشُ الـعَـرَبـيـة قـبْـل الإِسـْلام.

    وصـلـتْـنـا مَـجـموعـة مـن الـنُّـقـوش الـعـربـيـة مـن الـقـرن الـسـادس الـمِـيـلادي أغـلـبـهـا مـن جَـنـوب سُـوريـا. و فـي هـذا الـدرْس سـنـتـطـرَّق إلـى 1= نـقْـش زَبَـد، 2= نـقْـش أَسِـيـس. 3= نـقْـش حَـرَّان. 4= نـقْـش أُمّ الـجِـمـال الـثـانِـي. آخِـذيـن فـي ذلـك الإعـتـبـار الـكـرونـولـوجـي. 

      نـقْـش زَبَـد (أُنْـظُـر الـلَّـوْحة الـمُـرافِـقـة)

    يـرجِـع إلـى سـنـة 512م و زَبَـد هـي مَـنـطـقـة تُـوجـد جَـنـوب شَـرْق حَـلَـب. و الـنـقْـش عِـبـارة عـن سـطـر واحـدٍ كُـتِـبَ عـلـى جِـدار واجِـهـة كَـنـيـسـة مَـسـيـحـيـة. و قـد جـاء فـيـه:" ...ر الالـه سـرحـو بـر ا مـع مـنـفـو و هـلـيـا بـرمـر الـقـس/// و سـرحـو بـر سـعـدو و سـتـرو سـريـحـو..."
    هـذا الـسـطـر يـحـتـوي عـلـى مَـجـمـوعـة مـن الأسـمـاء الـشـخـصـيـة هـي ربَّـمـا لـمـن بَـنَـوْا أو أمَـروا بـبـنـاء الـكَـنـيـسـة.

    نَـقْـش أَسِـيـس (أُنْـظُـرْ الـلَّـوحـة الـمُـرافِـقـة)

    يَـعـود إلـى سـنـة 528م و أَسِـيـس هـو جَـبَـلٌ عـلـى بُـعْـدِ مِـئة كِـيـلـومـتـر جَـنـوب شَـرق دِمَـشْـق. و هـو عِـبارة عـن نـص عـربـي صَـغـيـر مـن أربـعـة أسـطـر قَـصـيـرة. و قـد جـاء فـيـه: " ابـراهـيـم بـن مـغـيـرة الأوسـي أرسـلـنـي الـحـارث الـمـلـك عـلـى سـلـيـمـان مـسـيـلـحـة سـنـة 423" الـنـص واضِـح جـدا و قِـراءتـه سَـهـلـة أيـضـا و كـل الأسـمـاء و الـوَقـائـع الَّـتـي يـذكُـرهـا مَـعـروفـة فـي تـاريـخ سُـوريـا.    

     

    نَـقْـش حَـرَّان (أُنْـظُـرْ الـلَّـوحـة الـمُـرافِـقـة)

    يَـعـود إلـى سـنـة 568م. و حَـرَّان هـي مَـركـز حَـضـاري مُـهـم جـدّا فـي جَـنـوب تـركـيـا. و قـد وُجِـدَ هـذا الـنـص فـي حُـطـام كَـنـيـسـة  و قـد جـاء فـيـه " ..نـا شـرحـيـل بـن طـلـمـو بـنـيـت ذا الـمـرطـول سـنـت 463 بـعـد مـفـسـد خـيـبـر / خـبـر بـعـام"


     نَـقْـش أُمّ الْـجِـمـال الـثـانـي (أُنْـظُـرْ الـلَّـوحـة الـمُـرافِـقـة)

     هـو نـقْـش يـعـود إلـى أوائـل الـقـرن الـسـادِس الـمِـيـلادي و هـو مَـكـتـوب  عـلـى الـجـزء الأسـفـل مـن سـاريـة كَـنـيـسـة تُـوجـد فـي "حُـورَان" جَـنوب سُـوريا. و هـو نـص صـعـب الـقِـراءة  و قـد جـاء فـيـه: " الله غـفـرا لالـيـه بـن عـبـيـده كـاتـب الـعـبـيـد أعـلـى بـنـى عـمـرى تـنـبّـه عـنـه مـن (يـقـرؤه)."
    مـن خـلال مُـقـارنـة الـنُـقـوش الأربـعـة الَّـتـي عـرضـنـاهـا، و أُخـرى لـم نـعـرِضـهـا، إنـتـهـى الـعُـلـمـاء إلـى خُـلاصـات يُـمـكـن إجـمـالـهـا فـيـمـا يـلـي:

    1= تـشـابُـه الـحُـروف فـي هـذه الـنُّـقـوش و تِـكْـرَارُهـا. مـع كـون بـعـضـهـا يُـشـبـه الـنـبـطـيـة أكـثـر مـن الـعـربـيـة.

    2= كـل الـحُـروف الـعـربـيـة مَـوجـودة فـي هـذه الـنُّـقـوش بـاسـتـثـنـاء الـزاي و الـصـاد.

    3= نـفـس الـحُـروف الـمُـتَّـصـلة و الـمُـنـفـصِـلة مـن جـهة الـيـسار فـي الـنـبـطـية و الـعـربـية.

    4= الـحُـروف الـتـالـية: ب / ج / ح / ل / ن / ط ، هـي نـفـسـها فـي الـكِـتـابة الـنـبـطـية.

    5= الـحُـروف الـتـالـية: د / هـ / س / ش / ر / ت، هـي أكـثـر تـطـوُّرا فـي الـكِـتابة الـعـربـية.

    6= غِـيـاب نُـقـط الإعـجـام تـمـامـا كـمـا هـو الـحـال فـي الـنـبـطـيـة.

    7= الألـف الـطَّـويـلـة فـي بـعـض الأسـمـاء و الـكـلـمـات لا تُـكْـتَـبُ فـي الـلـغـتـيْـن، هـكـذا نـجـد: حـرث / ابـرهـيـم / بـعـم، بـدلا مـن: حـارث / ابـراهـيـم / بـعـام.

     

     

     خُـلاصـة عـامـة

     

    يُـمـكـنـنـا الـقـوْل إنّ الـكِـتـابـة الـعـربـيـة، حـسـب الـنـصـوص و الـدِّراسات الـمُـتـوفَّـرة، لا تـنـحـدِر مـن الـخـط الـجـنـوبـي بـل مـن الـخـط الـشـمـالـي. و لـيـس مـن الـسـريـانـيـة بـل مـن الـنـبـطـيـة الَّـتـي هـي فَـرْع مُـتـطـوِّر مـن الآرامـيـة.

       أعلى الصفحة                                        

    المراجع:


     [1] "أَصْـلُ الـخَـطِّ الـعَـرَبـي" ص 85
      [2] " عِـلْـمُ الـلُّـغَـةِ الـعَـربـيـة" ص  182

      

    أعلى الصفحة

        
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 
      لانا راتب المجالي  
    بقلم زكرياء قاسم وعلي
     
    مقالات الكاتب

    مع اللغة العربية

     



     
     

     

    bruxellesaladabiya@gmail.com

     

    Partager via Gmail

    تعليقك


    تتبع مقالات هذا القسم
    تتبع تعليقات هذا القسم