•  

     

    مقدمة مختصرة لا بد منها

    تقديم كتاب "كليلة ودمنة" في شكل حلقات، للصغار كما للكبار، احتفاء بأدبياتنا الخرافية، كان حلما لنا. ولكنا كنا نصطدم بلغة الكتاب القديمة، خصوصا الكلمات والأسماء غير الدارجة لدى جمهورنا العربي، أو المفردات التي تنتمي إلى قاموس الأدبيات التراثية. لهذا عمدنا إلى تقديم خرافات كليلة ودمنة، على شكل حلقات، بلغة سهلة لا تخل بالنص الأصلي. فمارسنا بهذه المناسبة، حرية التصرف في بعض الصيغ الحكائية، مضيفين عبارة من هنا، ومستبدلين مرادفة من هناك، بأخرى أسهل، بغية الوصول إلى سرد قصصي تشويقي، ترتاح له الأذن، وتستسيغه النفس.

     

     كليلة ودمنة

         هذا الكتاب المُسَمّى "كَليلَة ودِمْنَة" من وضع الفيلسوف الهندي "بَيْدَبا". كان قد وضعه لملك الهند "دَبْشَليم" آنذاك. ولقد ساق رواية قصصه، على ألسنة البهائم والطير، وهو يشيرا ضمنا، إلى رموز الفئة الحاكمة. وهذا الأسلوب الحكائي الجديد، و هذا الفن الخرافي الحيواني، لهما الفضل في ترويج المواعظ القصصية، وإرسالها بين العموم.

          ويحكى أن ملك الهند "دبشليم"، كان طاغيا في حكمه، قاسيا على أبناء رعيته، لا تأخذه في الله رحمة، ولا لومة لائم. وكان عنده فيلسوفا مشهورا بالحكمة، والرأي الحسن. ولم يكن راضيا بالمرة على تصرفات الملك وسلوكه. كذلك، عمد إلى وضع طريقة، تمكنه من مواجهة الملك، ومفاتحته في أمره، وأمر رعيته. فعمد إلى تجميع نخبة ممتازة من تلامذته، وصارحهم في عزمه على مواجهة الملك، وردعه على تصرفاته الشائنة. وذكرهم بأن الإنسان الحكيم، قد يبلغ بعقله المراد، الذي لا يبلغه سلطان بخيله وجنوده. وضرب لهم بهذه المناسبة، مثل القُبُّرَة والفيل. قال بيدبا:

    -    يحكى أن قبرة، كانت قد اتخذت مكان بيضها، "أدحية" تقع على طريق الفيل. وكان للفيل مورد يتردد إليه. وصادف أن مر الفيل كعادته في ذلك الطريق، فداس أدحية القبرة، وكسر بيضها. وحين رأت القبرة ما حل ببيضها، جاءت إلى الفيل حزينة لتسأله، فقالت له:

    -       ما دعاك يا سيّدي الفيل، على تحطيم أدحيتي وتكسير بيضي؟ هل لأنك فعلت ذلك سهوا، أم أنك فعلت ذلك متعمدا، استصغارا لي واستنقاصا من شأني؟

    أجابها الفيل:

    -    بل فعلت ذلك عمدا، فاعملي ما تشائين !

    حينها ذهبت القبرة، عند جماعة من العقائق والعقبان، وشكت لهم أمرها. ولكنهم أجابوها، بأن ليس في استطاعتهم القدرة، على مواجهة الفيل. غير أن القبرة ألحت عليهم، بأن بإمكانهم مساعدتها. قالت جماعة العقائق والعقبان:

    -    وكيف ذلك؟

    قالت القبرة:

    -       أن تذهبن وتفقأن عيون الفيل، وسأتدبر الرأي بعد ذلك.

    فأجبنها إلى ذلك، وذهبن إلى الفيل، فتحايلن عليه، وما زلن ينقرن عينيه حتى عميت. ثم انصرفن عنه، وبقي الفيل كالتائه في الصحراء، لا يهتدي إلى طريق مشربه ومطعمه، إلا ما لاقاه على سبيله. ثم إن القبرة، لما علمت بأمر الفيل، طارت إلى غدير فيه ضفادع كثيرة، فشكت إليها ما نالها من الفيل. قالت الضفادع:

    -   ما حيلتنا نحن، والفيل كما تعلمين، أعظم منا؟

    قالت القبرة:

    -   أترجاكن أن تذهبن معي إلى وهدة قريبة منه، أي حفرة كبيرة، فتنقنقن وتضججن فيها. فأجبنها الضفادع إلى ذلك، واجتمعن في الهاوية. وما كدن ينقنقن، حتى سمع الفيل ضجيجها، فأتى مسرعا، قاصدا مكان النقيق، وكان العطش قد أخذ منه كل مأخذ، وألقى بنفسه في الهوة التي يحسبها غديرا، فارتطم فيها وبقي هناك كالمشلول. حينها جاءته القبرة مرفرفة على رأسه وقالت له:

    -   أيها الطاغي المغتر بقوته، أنت المحتقر لأمري، كيف ترى الآن عِظَمَ حيلتي مع صِغَرَ جثتي، عند عِظَمَ جُثّتك وصغر همتك؟

    قال بيدبا لتلامذته متابعا:

    -   لقد آن الأوان، أن يشير علي كل واحد منكم برأيه.

      ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    [انتهت الحلقة الأولى وتليها الثانية في عدد قادم.] 

                  

    مِنْ دُنْيا كَليلَة ودِمْنَة




    بقلم فؤاد اليزيد السني

     10-11-2011
    بروكسيل - بلجيكا

     

    Partager via Gmail

    تعليقك
  • بروكسيل الأدبية جريدة إلكترونية شاملة مستقلة
    Website counter 

     

    من دنيا كليلة ودمنة 2

     

     

    فؤاد اليزيد السني
    مقالات الكاتب

     

     

     

     

     

    قائمة المواضيع

      قصة قصيرة
       قصة ثصيرة جدا
         شعر 
         زجل 
     نزهات شاعرية  
        فلسفة و علوم
     
       مسرح 
      معرض 
      محاولات شابة
     من وحي الثرات
      سينما
     عالم الحكاية

     مواقف سياسية
     نقد أدبي 
     الصالون الأدبي
      من الأدب العالمي
     مقالات و دراسات إبداعية 
      

     

      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

    من دنيا كليلة ودمنة 2

     

       ( الحلقة الثانية )

     

    وأجاب الناطق باسم تلاميذه:

    -         أيها الفيلسوف الحكيم، إننا دونك رأيا وحكمة، وإننا لنخشى عليك وعلى أنفسنا من غضب الملك وسورته، إذا نحن أسمعناه ما لا يحب.

    قال الحكيم بَيْدَبا:

    -         لقد كان في نصيحتكم لي ما ارتأيتموه صوابا، إلا أنني مع كل ذلك قد قررت أن أدخل على الملك. ومتى ما خرجت من عنده فاجتمعوا بي. والآن انصرفوا على بركة الله ورعايته.

    ثم إن "بَيْدَبا" اختار يوما للدخول على الملك، وصار حتى وصل إلى القصر، واستأذن الحاجب في السماح له بالدخول عليه. وأخبره بأنه قد جاء لنصيحة الملك. ثم إن الحاجب أخبر الملك بأمر بيدبا، فأذن له بالدخول، فدخل، ووقف بين يديه، وحيّاه تحية الملوك، ثم استوى قائما وسكت. ثم إن الملك تفكر في أمر سكوت بيدبا، وقال في نفسه:" والله أنه ما جاء إلا لطلب هدية، أو لأنجيه من مصيبة وقعت به .. ثم إنه بعد هذا حكيم مملكتي، وله من العلم ما يمكن أن يخدم ثروة ملكي ..". ثم رفع رأسه نحو بيدبا وقال له:

    -         نظرت إليك يا بيدبا ساكتا لا تعرض علينا حاجتك، ولا تذكر بغيتك. فقلت في نفسي، لعلها هيبة الملوك، أو حيرة ألمت بك. ثم إنه ليس من عادتك أن تأتي إلينا هكذا بغتة. ومن يعلم ! لعله أمر طارئ، أو ظلم لحق بك لا يتطلب الإرجاء. على كل حال، تفضل بالكلام، فإني ملبّ لكل حاجاتك إن شاء الله.

    قال بيدبا بعدما سمع لكلام الملك:

    -         أول ما أقوله، أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد ودوام ملكه. فإن الملك قد كرمني وشرفني باستقبالي وذكري من دون باقي العلماء. وإني قد جئت من أجل قضية تخص الملك.

    قال الملك دبشليم:

    -         تكلم يا بيدبا كيفما شئت، فإني مصغ إليك.

    قال بيدبا:

    -         إني وجدت أن ما امتحن به الإنسان من باقي سائر المخلوقات، أربعة أشياء بها يسير العالم، وهي: الحكمة، والعفة، والعقل، والعدل. وباقي المحاسن تدخل كلها، تحت سيادة هذه الأربعة: كدخول العلم في باب الحكمة، والصبر في باب العقل، والحياء في باب العفة، والإحسان في باب العدل. وهذه هي المحاسن وأضدادها المساوئ. فإذا كملت هذه الفضائل في إنسان، لم يحتج قط إلى غيرها، وعاش دنياه مكرما، منعما. وأنت أيها الملك قد سمحت لي بالكلام، وإني قائل لك يا جلالة الملك، بأنكم قد ورثتم هذا الملك عن أبائكم الذين ورثوه عن أجدادهم. ولقد ساروا فيه بالسمعة الحسنة، وعمروا البلاد، واستكثروا الجنود، وشيدوا القلاع، وسادوا في الرعية بالعدل، والإحسان. أما أنت يا جلالة الملك، فلقد طغيت، وبغيت، وعتوت، وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وكان الأولى بك أن تسلك سبيل أسلافك، وتتمم ما ابتدءوا من بنيان، وإحسان وعدل. فانظر يا جلالة الملك فيما ألقيت إليك، وأرجو الله أن لا يكون كلامي ثقيل الوقع عليك، فما جئت ابتغاء جاه، أو عرض من أعراض الدنيا، أو التماس مكافأة، ولكني جئت ناصحا، مشفقا عليك. ثم إن بيدبا من لما فرغ من مقالته، عاد إلى مكانه منتظرا جواب الملك. غير أن الملك، كان قد استشاط غضبا من مقالة بيدبا. وقال في نفسه، كيف يجرؤ إنسان مثله، أن يكلمني بمثل هذا الكلام، ثم يلقي علي تهما كبيرة سماها نصيحة ! فأمر في الحال حرّاسه، أن يجروا بيدبا إلى السجن ويقتلوه صلبا. ولكنه استدرك نفسه، وتعوذ من غضبه، واستوقف حراسه طالبا منهم، أن يكتفوا بسجنه لغاية ما يتدبر أمره.

    -         وهكذا مرت الأيام، وتفرقت تلاميذ بيدبا في أرجاء البلاد، ونسي أمر الحكيم بيدبا. وحصل للملك ذات ليلة، أن سهد سهدا شديدا فلم يتوصل إلى النوم، فتطلع من شرفة قصره المطلة على السماء المنورة بالنجوم، وراح متطلعا ببصره في هذا الصنع العجيب، ولشد ما أحب في أحب في هذه الأثناء أن يحدثه أحد عن سر هذه النجوم والأفلاك. حينها تذكر الفيلسوف بيدبا، ومقالته الرشيدة. فأدرك بأنه كان لسبب تسرعه وغضبه قد أخطأ في حق الفيلسوف، وأنه كان قد نسي الخصال الحميدة التي كان عليه أن يتمتع بها وهي: تجنب الغضب، والبخل، والكذب، والعنف. ثم إن الملك راجع نفسه، وأنفذ في الحال من يأتيه بالفيلسوف بيدبا. ولما مثل بين يديه، قال له:

    -          ألست أنت الذي طعن في سيرتي بكلامك سابقا؟

    أجاب بيدبا:

    -         بلى ! يا سيدي الملك، إنما نبهتك لما فيه صلاحك وصلاح رعيتك، وإدامة ملكك.

    قال الملك:

    -         أعد علي إذن مقالتك، فإنني مستمع إليك بوقار وهمة.

    ثم إن بيدبا أعاد على الملك مقالته، وكان من الملك أن أمر حراسه أن يفكوا قيوده، ويلقوا عليه ثوبا فاخرا يليق به كحكيم. ثم إن الملك أجلس بيدبا عن يمينه وطلب منه أن يضرب له مثلا لمتحابين، أفسد محبتهما، كذوب محتال. فقال بيدبا:

    يحكى، أنه كان يا ما كان، في قديم الزمان وسالف الأوان، ببلدة تدعى "دستاوند"، رجل مُسِنّ له ثلاثة أولاد. ومرت الأيام كبر فيها الأولاد الثلاثة، ولم يكونوا قد تعلموا، أية حرفة أو مهنة، تضمن مستقبل حياتهم. بل تناولوا ثروة أبيهم، التي كان قد قضى كل شبابه في جمعها، وراحوا يبذرونها وينفقونها كيفما اتفق. فحزن الأب العجوز لما رأى أولاده على هذه السيرة المبتذلة، وقرر يوما، أن يجمعهم ويعظهم. وكان مما قال لهم، بأن هذه الدنيا، تطلب بثلاثة أمور لا تدرك إلا بأربعة أشياء. فأما هذه الأمور الثلاثة، التي يطلبها صاحب الدنيا، فهي السعة في الرزق، والمنزلة الحسنة عند الناس، والزاد للآخرة. ومن أجل الحصول على هذه الأشياء، يستلزم صاحب الدنيا أربعة أشياء وهي: اكتساب المال من الوجه الحلال، ثم حسن القيام على صيانته من التبذير، ثم استثماره في مشروع نافع، ثم إنفاق ما تيسر منه، على ما يصلح معيشته، وحوائج خلانه وأقاربه.

    وكان من رد فعل الأولاد، أنهم تأثروا كثيرا بموعظة أبيهم، وأقلعوا على ما كانوا عليه من تبذير وفساد، وقرر كل واحد منهم، أن يرحل إلى جهة معينة، بغية اكتساب حياة تليق به. وهكذا خرج أحد الإخوة على متن عجلة يجرها ثوران، يقال لأحدهما "شتربة" والآخر "بندبة". وحصل لهذا الرجل، أن مر بسرير مستنقع جاف، فوحل فيه ثوره "شتربة" ولم يستطع الحراك. وحاول الرجل صاحب الثور، أن يخرجه من هذه الورطة، إلا أنه، وبالرغم من كل جهوده وجهود الرجل الذي كان يرافقه في رحلته، لم يتمكنا أن يحررانه من وحله. فمضى الرجل تاركا الأمر لرفيق رحلته عله يجد حلا. ولكن هذا الأخير، حين يئس من تخليص الثور، تركه ولحق بصاحبه قائلا له بأن الثور قد مات. ومن الغريب في الأمر، أن هذا الثور، الذي حكم عليه الرجلان بالموت، قد كان قويا في نفسه، لدرجة أنه ضاعف من جهوده لغاية ما تخلص من الوحل. ثم إنه اتخذ له طريقا لا يسلكها البشر، وراح هائما على وجهه، حتى عثر على مرج مخصب كثير العشب والماء. وهكذا استقرت الحال بصاحبنا الثور بعد تطواف وتجوال، وبدأ يأنس بمقامه الجديد، وعادت الطمأنينة لقلبه، وبدأ يشعر بالراحة والسعادة والأمان. ومنذ هذه اللحظة، لم يعد يبالي بأي شيء، وصار يملأ تلك الأجمة بخواره، وكأنه المخلوق الوحيد في هذه البقعة. غير أن الواقع كان بخلاف ما تصوره صاحبنا الثور، إذ أنه غير بعيد من مرجه، كانت تمتد حدود أجمة تقيم بها، أصناف عديدة من مختلف الحيوانات، المفترسة منها والطائرة والمقتاتة على الأعشاب: كالأسود والذئاب والفيلة والنمور وبنات آوى والثعالب والفهود والنسور والأرانب، وحيوانات أخرى من كل صنف ونوع. وكانت هذه الحيوانات قد اتفقت بالإجماع، على تتويج أسد قوي وشجاع، ملكا عليها. ولم يكن هذا الأسد ليهتم بتدبير قوت يومه، لأن الحيوانات المحدقة به، كانت تخدمه وترعاه وتسهر على راحته وسعادته. ومع كل هذا الحظ الذي كان يتمتع به الأسد، فإنه أصبح ذات يوم وقد غمره الحزن، وتبدلت حاله حتى أصبح يعاف الأكل ولا يسمح لأحد من الحيوانات الاقتراب منه.  

        بقلم فؤاد اليزيد السني 15-01-2012 – بروكسيل - بلجيكا  

     

     

     

     

     

    أعلى الصفحة

        21 visiteurS 
       
    sounnif@gmail.com
    Previous Tab                     للمشاركة إضغط هنا                      Next Tab
     
      الرئيسية 
      أنشر هنا 
      دنيا الأدب والفن 
      مسرح  
     دنيا الترجمة والإبداع 
     اجتماعيات وعلوم 
    معرض  من نحن 
      اتصل بنا 

     لانا راتب المجالي

    بروكسيل الأدبية ترحب بكل إبداعاتكم

    bruxellesaladabiya@gmail.com

     

    1 visiteur actuellement sur le site
    Partager via Gmail

    تعليقك


    تتبع مقالات هذا القسم
    تتبع تعليقات هذا القسم