•  

     كلُّ ثورةٍ ذائقةُ الموتِ

     

     لكلّ ثورةٍ فضائلُ يُسجِّلُها تاريخُ الشعوبِ في خزينِ يقينياتِه الاحتياطيِّ، وتُمرِّرُها الذاكرةُ الشعبيّةُ إنْ جهرًا أو سرًّا إلى الأجيالِ القادمةِ لتستنيرَ بها في مشغلِها الحياتيِّ وتتعظَ بها عندما تتماسُّ مع المحظوراتِ السياسيّة والاجتماعيّة في كلّ فعلٍ ثائرٍ جديدٍ. ولعلّ من فضائل الثورة التونسيّة أنّها كشفتْ للناس عن حقائق بسيطةٍ ولكنّها ثرّةُ الفهم علينا جميعًا أن نعي بها وأن نمنحها ما تستحقُّ من التأويل. ومن تلك الحقائق أنّ النُّخبَ العربية تأتي دائمًا متأخّرةً عن الحراك الاجتماعيِّ المؤسِّسِ للثورة، بل ولا يعي أفرادُها من الثورة غيرَ ميكانيزماتِها التي تُبيحُ لهم ما به "يُرْزَقونَ" رغم مواتِهم الإبداعيِّ ويركبون به ظهورَ العامّة ويمتصّون دماءَها مثل القُرادِ.

    ومن فضائل الثورةِ أيضًا أنّها تكشفُ عن جمهورٍ من السياسيّين الذين يُجيدون إيقاعاتٍ فريدةٍ في التطبيلِ لكلِّ نظامٍ قائمٍ، ويهرعونَ إلى غيرِه عندما يُنسَفُ، ولكنّهم لا يستطيعون التخلُّصِ من عاداتهم القديمة في التزميرِ والتهليلِ، فيخرجون على الناسِ في الفضائيات مُحلِّلين للسياسات وللقضايا الاجتماعيّة كما لو كانوا أنبياءَ الرحمان، فيمدحون الثورة مدحًا حارًّا ويقدّمون أنفسهم مناضلين فيها. وهم يفعلون ذلك لأمريْن: أوّلهما التطهُّرُ من سوءاتهم وخياناتهم لشعوبِهم، وثانيهما سعيُهم إلى افتكاك مقعَدٍ لهم في الأنظمةِ التي ستصنعُها الثورةُ في كثيرٍ من "الميكيافيليّة" المقيتةِ.

    وإذا كان "القنّاصةُ" الذين يعتلون سطوحَ المباني ويطلقون رصاصَهم على المواطنين كما لو كانوا يمارسون لعبةَ الغُمّيضةِ دون وعيٍ منهم بحجمِ جرائهم، ولئن كان هؤلاءِ يفعلون ذلك بفعل غسلِ الدّماغِ الذي تعرّضوا إليه من قِبَلِ الأنظمة الدكتاتوريّة وبإعانة من عواصم الغرب الاستعماري، فإنّهم يظلّون أقلّ خطرًا من نوعٍ ثانٍ من القنّاصة الذين يمكن تسميتهم بقنّاصةِ السياسة. وهم نفرٌ من المُهرِّجين السياسيّين اللَّبِقين الذين يُجيدون اللعب على كلّ الحبالِ الاجتماعية والسياسيّة، ولهم قدراتٌ عالية في "قَنْصِ" حرّياتِ الشعوبِ الثائرة والانزياحِ بحراكها عن أهدافه صوبَ أهدافهم هم. وهو ما يمثِّلُ فضيلةً من فضائل ثورة تونس، حيث عرّتْ أمامنا حقيقةَ أنّ الثوار يموتون، وأنّ "قناصة" السياسة، مدعومين بقناصة السياسات العالمية في أمريكا وأوروبا، ينعمون بخيرات ثورتِهم وثرواتهم، بل ويحوِّلون شِرْعةَ حراكهم صوب أهدافٍ أخرى مناقضة لأهداف الثورةِ. وهنا وجب التأكيدُ على أنّ الشعوب الثائرةَ مدعوّة اليومَ إلى الوعي بالراهن والخروج من "السَّكرة" التي أُدخلوا فيها والوهم الذي سُوِّقَ لهم، وعليهم أن يقتنعوا بأنّ كلّ ثورةٍ ذائقةُ الموتِ بإذن هؤلاء.

                             

    الشعر في سياق الربيع  العربي

     عبد الدائم السلامي (الجمهورية التونسية)

     10-11-2011
    الجمهورية التونسية

    Partager via Gmail

    تعليقك


    تتبع مقالات هذا القسم
    تتبع تعليقات هذا القسم